الموت بمخالبه الطويلة يقتنص عناية جابر على عجل، يضع في قائمته أسماء لم نكن مستعدين تماماً لغيابها في مثل هذه التوقيت. هذه المرّة اختطف الموت شاعرة شفيفة تقف عند تخوم الوقت، تفلش حصتها من الألم والوحدة وهباء اللحظة مثل مائدة للعشاء. الشاعرة التي انشغلت بأرشفة الغياب تغيب بغتة، بكامل أسباب الأذى. لا تشبه صاحبة «ثمّ إنني مشغولة» سواها، لفرط خصوصية تجربتها الشعرية، إذ لطالما أكدت حضورها في هوامش ما يعتبره الآخرون نافلاً، لا يستحق التدوين، عن طريق الحفر المتراكم لما تسميه وفقاً لعنوان أحد كتبها «مزاج خاسر».

كأنّ تأكيد الخسارة هو جوهر مغامرتها في ترويض أسباب العيش والانفلات من قفص الوحدة. أنثى توقظ حواسها لا لتعيش لحظة العري، إنما لتذكّر ما غاب، ما كان متوهّجاً، فالحياة هي ما كانت قبلاً، إذ ما حاجتنا إلى الشعر ونحن نعيش لحظة النشوة الحميمة؟ فنحن نكتب فداحة الغياب لا الحضور، الفراغ لا الامتلاء. هذا الحطام الخشن هو الإبرة التي تخيط بها صاحبة «ساتان أبيض» أوجاع الجسد وتلف خلايا الوجد «أدرّب عينين مغمضتين على تذوّق الألم/ قلبي فقاعة ضخمة يؤلمني/ دهنته بالمرهم وربطته جيداً» تقول.
العطب الذي تستدعيه عناية جابر عطب شخصي، ليس مستعاراً من أحد، إذ نشمّ رائحة حريق، تتسلل بجرعات متفاوتة، وبمشيئة مزاجها المتقلّب، لكنّ تدوين الرائحة يخضع لمسطرة صارمة، فهي لفرط التقشّف البلاغي تكاد أن لا تترك شيئاً وراءها، أو أنها لا تلتفت إلى ما سيحدث لاحقاً، عدا آثار خطواتها بما يشبه صورة تذكارية قابلة للمحو. مشهديات متتابعة خلف زجاج مكسور، تحيل إلى مرايا متشظية، وفخاخ تقتنص إشراقات خاطفة تضعنا في مرمى الحيرة والانخطاف: «كدماتٌ داكنة تدبغُ قلبي الصغير»، و«من الغياب أصنع لكَ تمثالاً/ وعليه أن يستمر/ على هذا الوضع، بينما الغرفةُ تنظر إلى عُريّي».
تفلش حصتها من الألم والوحدة وهباء اللحظة مثل مائدة للعشاء


ولكن مهلاً، كيف نفسّر حرير الكلمات التي تصف طعنات الجسد وأشواقه وعذاباته؟ ما تفعله عناية جابر من دون مشقة هو اختزال المشهد إلى ضربة إيقاعية واحدة، بألعاب لغوية بسيطة، بسحبة كمان مباغتة، بغواية علنية (تلحُّ علينا هنا صورة الشاعرة الإغريقية سافو في مكاشفاتها لأحوال الجسد والصبابة والوله)، غواية تستنفر الحواس بأقصى طاقتها واشتباكها مع مفردات الطبيعة، فههنا مطر غزير يبلل الجسد، وشمس تدفئه، وريح، وهواء، وغيم، ما يحيل إلى كائن مائي في المقام الأول. لا نعلم ما هو مصير مسودات قصائد صاحبة «جميع أسبابنا». هل تبزغ نصوصها منحوتة هكذا، أم أنها تخضع لمحو مستمر يصل إلى حدود البياض؟ كأننا حيال دهشة تقطف ما هو مرئي على عجل وتقشيره مما هو فائض عن الحاجة، بتلقائية مفرطة، وباستنطاق الصمت بصرياً، في المنطقة الفاصلة بين البلاغة وشعر التجربة «أظنّك كسرتَ قلبي، والدم يتدفق منه/ إنه ينزف قلبي ذاك».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا