«أنا عزالدين المناصرة/ سليل شجرة كنعان وحفيد البحر الميت/ قبطان سفن الزجاج المحمّلة بالحروف/ أسافر في مدن العالم كالطائر أحمل رموزاً ورسائل/ من بني نعيم إلى كرمل الدالية/هو قلبي الذي يتمدّد تحت بساطير الجنود الغرباء/ شلال دمي في عاصمة برتقالية صهيل كالمهر».
لوحة للرسّام الفلسطيني إسماعيل شموط (1930 ـ 2006)

يُظلم الشاعر الراحل عزالدين المناصرة في أي محاولة لتقسيم الشعر الفلسطيني وتأطيره إلى مراحل زمنية معينة تختصرها الأحداث الكبرى مثل «النكبة» و«النكسة» وظهور العمل الفدائي في الأغوار الأردنية ومنطقة العرقوب اللبنانية وغيرها. ففي دراسة تكاد تكون يتيمة في مرجعيتها بعنوان «الشعر الفلسطيني الحديث» صادرة عام 1978 عن وزارة الثقافة والفنون (الجمهورية العراقية) للباحث خالد علي مصطفى، يتم وضع عزالدين المناصرة ضمن ظاهرة «الشعراء الجدد ممن انصرفوا إلى تمجيد الثورة والثوار في لغة متّقدة الحرارة، وصور معبّرة وحادة، وسياق شعري غني بدلالات الثقة والحب»، فهل صحيح أنّ عزالدين المناصرة وأحمد دحبور ومعين بسيسو شكّلوا ما يمكن تسميته بـ«ثالوث الثورة» أي الجيل الذي كتب الشعر في «الخارج» ونضج في المدن العربية وكان محكوماً بشروط مختلفة عن شعر «الداخل» الذي مثّله الثالوث الآخر محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد؟ هذا الثالوث الذي هيمن على المشهد الشعري الفلسطيني في مرحلة وصفها محمود درويش نفسه بأنها «مرحلة تاريخية معيّنة انفتحت فيها النفسية العربية الجريحة على تقديس كل ما يرد من أرض فلسطين ولكن بعضنا داخ من اللذة، وبعضنا صار يصمم القصائد لحناجر المذيعين، وبعضنا خاف من المسؤولية وقلق. وبعضنا أدرك أنها موجة وتنكسر ولا يبقى من هذا الزبد غير الشعر الحقيقي ويومها كتبت: أنقذونا من هذا الحب».
يخرج عزالدين المناصرة من ثنائية «الداخل» و«الخارج»، و«المقاومة» و«الثورة» حين يبدو من بداياته الأولى في «يا عنب الخليل» (1968) و«قمر جرش كان حزيناً» (1974) وبعدها خصوصاً في «الكنعانياذا» (1982) وقد اجترح خطه الشعري الخاص به بالتوجه نحو الحفر في الجذور الحضارية لشعب فلسطين الضاربة في القدم منذ حضارة أريحا منذ أكثر من 10 آلاف عام، فابتدع ما يمكن تسميته «القصيدة الحضارية الكنعانية الفلسطينية» التي لم يسبقه إليها أحد: «بدأت من رؤيتي للآثار القديمة والبحر الميت في طفولتي وبعض المفردات في لهجة بلدتي وهي لهجة مليئة بألفاظ غير عربية، ثم إنني تطلعت إلى لغة الأدب الكنعاني القديم، خصوصاً في اللآلئ للكاهن الكنعاني، فوجدت أن العالم الفلسطيني المعاصر هو استمرار للتراجيدية القديمة، كنت في طفولتي أركض بين آثار كنعانية عريقة، الخليل مدينتي هي مركز حضارة العماليق الكنعانية، لقد أحسست منذ طفولتي بالكنعنة الفطرية الطبيعية، ما جعلني أنتبه إلى عنصر الهوية الفلسطينية... كنت أشاهد آثار أجدادي الكنعانيين العمالقة ماثلة أمامي، وكنت أسمع صهيل الجغرافيا والتاريخ يومياً». عزالدين المناصرة إذن كان أول من ابتدع «السمفونية الرعوية» الكنعانية في الشعر الفلسطيني الحديث، مستنبتاً بالكلمات الجذور الزراعية الحضرية والمستقرة لأجداد الفلسطينيين في أطروحة مضادة للدعاية الصهيونية التي تجعل من هؤلاء الفلسطينيين قبائل متنقلة قادمة من جنوب الجزيرة العربية أو من جزيرة كريت: «أنا ابن دليلة/ غزّية البرتقال وأمك من؟ / وسيدي: كنعان يسكن رأس الأعالي/ وسيدك من؟/وأقتات من خشب الورد/ إن داهمتني الليالي/ وتقتات: سلوى ومنّْ/ أبي من سلالة كنعان – جد البحار/ وأنت ابن من؟ أيها القادم من غيتوهات العَفَنْ؟»
السمة التجديدية الثانية عند المناصرة كانت في «تثويره» للغة العامية والإفادة من حمولتها الثرية لرفد الشعر الفصيح حيث تسقط تصنيفات الشكل لمصلحة شعرية المضمون: «لهجات العربية عندي هي المنجم الذهبي لتطوير الفصحى، لهذا اخترع المستشرقون كذبة اسمها «صراع الفصحى والعامية» من أجل أن تكون الإنكليزية أو الفرنسية هي الحل. وأدعو إلى تدريس شعر الحداثة «اللهجي/ المحكي» وشعر «الهجرة اللغوية» في الجامعات، لأنهما بكل بساطة شعر خالص. أما ما فعلته، فهو مجرد «تجريب» لتأكيد تداخل الأجناس الشعرية» يقول المناصرة في إحدى مقابلاته الصحافية، كما أنه أثار عاصفة من الجدل حين سمّى قصيدة النثر «القصيدة الخنثى». ويختصر المناصرة الحاصل على الدكتوراه في الآداب من «جامعة صوفيا» عام 1981 والمدرّس في «جامعة فيلادلفيا» في الأردن السجال حول قصيدة النثر بما يلي: «لقد جمعت 45 اسماً لقصيدة النثر، ومع هذا يبقى مصطلح «قصيدة النثر» هو المقبول من قبل غالبية النقاد. وللحقيقة، كدت أتراجع عن مصطلحي «كتابة خُنثى» الذي قمت بنحته عام 1997 بسبب الهجومات الكاسحة عليه رغم أنني قلت إن الورد الجوري خنثى، وكذلك الليلك، فقد استوحيته من الأسطورة اليونانية «هيرمس-أفروديت» أي الإنسان الكامل. ومع هذا كله تراجعت عن التراجع، والسبب هو أنني اكتشفت أن الذين يقدّسون سوزان برنار لم يقرأوا كتابها، وكانت المفاجأة لي أثناء قراءة المجلد الثاني من الكتاب المترجَم عام 2000 مصطلح «الشكل المخنث» (ص 211) بعظمه ولحمه وشحمه، وصفاً لقصيدة النثر على لسان برنار نفسها».
برحيل عزالدين المناصرة، تفقد القصيدة العربية المعاصرة والفلسطينية بخاصة صوتاً متفرّداً نستذكر من كلماته «وكان الصيف موعدنا» التي اشتهرت بعد أن غنّاها المطرب البحريني خالد الشيخ ونردد مع مرسيل خليفة مقاطع من قصيدته الخالدة جفرا: «وضفائرُ جفرا / قصّوها عن الحاجز / كانت حين تزور الماءْ/ يعشقها الماء / وتهتز زهور النرجس حول الأثداء/ جفرا ، الوطن المَسْبيْ/ الزهرةُ والطلْقةُ والعاصفة الحمراءْ/ جفرا...إنْ لم يعرفْ من لم يعرفْ غابة تُفَّاحٍ/ ورفيفُ حمام ٍ... وقصائد للفقراءْ/ جفرا...من لم يعشق جفرا/ فليدفنْ هذا الرأس الأخضر في الرَّمْضاءْ». ونغني في «تل الزعتر»: «حين كان الرصاص غزيراً/ رفعنا مع التلّ راياتنا/ واندفعنا نقبّل أجساد من رحلوا/ ونقبّل أجساد من وصلوا ونداعب أطفالهم/ ونقيم من الموت عرساً/ ونشعل غاباتهم خضرةً/ حين كان الرصاص غزيراً/ وخلف المتاريس/ نرمي بأجسادنا كي ندافع عن شرف القافلة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا