عمان | أمس، شيعت عائلة الشاعر الفلسطيني الراحل عز الدين المناصرة، جثمانه الي مثواه، ساروا بالنعش على ألم الموت. فقد كان فيروس كورونا قد نال من رئة الراحل، تلك الرئة التي شمت وانتعشت طوال ما يزيد عن ٧٦ عاماً على دروب تلك المزارع، في الخليل وبيروت والجزائر وعمان.ها شاعرنا الكبير ينجو، ويغيب نحو البرزخ الإلهي، راضياً مرضياً. هي لعنة الوباء، لكنها مقادر الحياة والموت.. عز الدين المناصرة نجا وها هو فعلها وبات بين السموات.. شهيداً..
بالأخضر كفّناه
بالأخضر كفّناه بالأحمر كفّناه
بالأبيض كفّناه بالأسود كفّناه
لا الريح تحاسبنا إن أخطأنا لا الرمل الأصفر
لا الموج ينادينا إن خطف النوم أعيننا
والورد إحمرّ
يا دمَهُ النازف إن كنت عذاباً يومياً
لا تصفرّ
…صدمة الغياب لقمم الشعر العربي، وضعت الأوسط كافة، تكتوي بألم الفراق، وعنه قال الكاتب الكبير محمود شقير: «من حقّ فلسطين أن تحزن، ففي أقل من شهرين، يغادرنا شاعران كبيران: مريد البرغوثي وعز الدين المناصرة. وداعاص لمن أنشدا لفلسطين أجمل القصائد والأناشيد».
مثل فارس الكلمة الحرة، شاعراً مبدعاً ومفكراً حراً وناقداً متميزاً ومثقفاً ملتزماً، وكنعانياً اصيلاً، بات يجترح عشرات الدراسات النقدية في الأدب وحداثة الشعر والسينما والفنون التشكيلية
بدأ كتابة النقد والشعر في اواسط الستينات إلى أن ذهب إلى جامعة القاهرة التي تخرج منها في العام ١٩٦٨، وكان في أواخر ستينات القرن الماضي، من أبرز الأسماء في الشعر والنقد..
«خليلي انت
يا عنب الخليل الحر
لا تثمر
وإن اثمرت كن مراً
على الاعداء»
ومن واقع المأساة، كتب الروائي عامر طهبوب، الذي عايش الراحل لسنوات: «يجسد عز الدين المناصرة خير تجسيد نموذج العلاقة الأردنية الفلسطينية المتشابكة المعقدة، بكل ما تحمله من تناقض أو توافق، كما يشكل رمزاً من رموز التشتت والالتئام، والائتلاف والاختلاف، والهجرة والعودة، والخصام والوئام، ليس على المستوى الأردني الفلسطيني أو العربي فحسب، بل ينسحب الأمر على المستوى الإنساني». وأضاف طهبوب: «العشق يأخذني إلى قلب عاشق جفرا، جفرا النابلسي، الطالبة في الجامعة الأميركية في بيروت، عشقها المناضل المثقف، والشاعر المتمرد، قلت له: صف لي جفرا؟ قال: كيف أصفها لك؟ قلت: قل لي ما الذي جعلك تحبها؟ ضحك وقال: قلبي، قلت: لا تهرب، قل لي الحقيقة، ما الذي أعجبك في جفرا؟ نظر إلي، ابتسم وقال: هل تريد الحقيقة؟ قلت: بالطبع، قال: أحببت دماثتها».
هل رأيتم السحر في عشق الشعراء، أي رقة هذه، أي شاعرية، وأي رجولة، إنه مذاق شاعر وعاشق جفرا عشق دماثتها وقال لها: أتمنى أن أراك يوماً وأنت ترتدين ثوباً فلسطينياً، سافرت جفرا في إجازتها الصيفية إلى أهلها في سوريا، وعادت إلى بيروت ترتدي له ثوب نساء أنجبنه تحت دالية عنب في قرية بني نعيم من قضاء الخليل، وهو من تغزل بعنب الخليل:
الشهد في عنب الخليل
وعيون ماء السلسبيل
هي إرث جيل بعد جيل
وكفاح تاريخ طويل
مرت الأيام ليصحو المناضل المثقف على خبر تفجير وقع على حاجز في الحازمية، أول بلدات الجبل، وهو نفس المكان الذي استشهد فيه غسان كنفاني. فتح عز الدين الصحيفة ليقرأ اسم محبوبته من بين الشهداء : جفرا النابلسي، فغرق في الحزن، فقد الوطن، وفقد المحبوبة، وما أصعب فقدان المحبوبة بعد فقدان الوطن، والمرأة عند الفلسطيني وطن، وبديل للوطن، وطن يعوض الرجل عن لذة فقدان الوطن، ترى بعض الرجال ينادي على زوجته: «شو بتسوي، تعالي»، وعندما تأتي إليه وتسأله عن حاجته، يقول: «لا شيء، تعالي أقعدي»، إنه يريدها قريبة لصيقة، إنه يكره الغياب، ومن رحم هذا الحزن جاءت جفرا؛ غابة البلوط، ورفيف الحمام، وقصائد الفقراء:
من لم يعرف جفرا
فليدفن نفسه
من لم يعشق جفرا
فليشنق نفسه
فليشرب كأس السّم الهاري
...
لم أرفع صارية، إلا
قلتُ: فِدى جفرا
جفرا الوطن المسبي
الزهرة والطلقة
والعاصفة الحمراء
يلتقط طهبوب، بدايات عز الدين الذي مديراً للبرامج الثقافية في الإذاعة الأردنية بين الأعوام ١٩٧٠ وحتى ١٩٧٣، أسس خلال تلك الفترة مع مجموعة من المثقفين الأردنيين رابطة الكتاب، وربطته علاقة صداقة حميمة بتيسير سبول، وعلاقات مع زملائه في الهيئة الإدارية للرابطة من أمثال محمود السمرة، وعيسى الناعوري، ومحمود سيف الدين الإيراني، وعدي مدانات، وغيرهم، قبل أن تصدر الجهات الأمنية قراراً بإبعاده عن الأردن في أعقاب تداعيات عام ١٩٧٠، فقد تقرر إبعاده إلى تنزانيا، «قلت: تنزانيا؟ فانفجر في الضحك، قال نعم، قالوا لي، لا بد وأن تجد أحداً من أقاربك أو معارفك هناك، ولكن حدثاً وقع له في المطار وهو يغادر، رفع عنه مشاعر الضيق، إذ اقترب منه ضابط وسأله: هل أنت عزالدين المناصرة؟ قال: نعم، وعندها سأله: لماذا تريد الذهاب إلى تنزانيا؟ قال: هذا هو القرار، فصمت الضابط برهة ثم قال: أين تريد الذهاب؟ قال: إلى أي مكان غير تنزانيا، قال: هل مصر تناسبك؟ قال: يا ريت، فتولى الضابط كل الإجراءات اللازمة وودع عز الدين معانقاً على مدخل الطائرة». ومما يؤرخ: «قال لي أبو كرمل: كنت أحب دوماً وأنا أعود بذاكرتي إلى الأردن، أن أتذكر المشهد الأخير، وعناق الضابط لي على مدخل الطائرة، وهكذا تنقل المناصرة بين بيروت والجزائر قبل أن تعرض عليه الدولة الأردنية العودة، فوافق، ومنحته الدولة الجنسية، وأقام في عمان منذ عام ١٩٩١، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام ١٩٩٥، وهو العام الذي التقيت فيه الرجل لأول مرة، فأحببته وأحبني، ونحن نستذكر معاً نفس المدرسة، والدالية، وبلوطة إبراهيم، وحضرة إبراهيم، ودرج الحرم، والكُسبِة، والحِسبة، وحارة القزازين، وأفران القدر، ورائحة الطوابين، وأوشام الكنعانيات، وبصبصات المراهقة، والزبيب، والملبن، ومعاجن الفخار».
وبرحيل المناصرة قال محمد عبيدالله: «يكون المشهد الثقافي العربي فقد واحداً من أسمائه الكبيرة اللامعة حيث ظل حاضراً بقوة على مدى أكثر من نصف قرن شاعراً وناقداً وباحثاً وأستاذاً جامعياً، وله عشرات الدواوين الشعرية والكتب النثرية الأخرى التي أغنت المكتبة العربية». والشاعر الكبير عز الدين المناصرة من مواليد قرية بني نعيم في محافظة الخليل عام ١٩٤٦ وأنهى دراسته الجامعية في مصر وعمل في الإعلام الأردني في ستينيات القرن الماضي قبل أن يلتحق بالعمل الفدائي الفلسطيني، وكان مقاتلاً في لبنان مدافعاً عن الثورة الفلسطينية وعروبة لبنان الشقيق. حصل على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة صوفيا، كما عمل أستاذاً جامعياً لما يزيد على عشرين عاماً في جامعة فيلادلفيا الأردنية.
وعن الصوت والقصيدة، تورد الباحثة الفلسطينية بيسان عدوان: «غنى قصائده مارسيل خليفة وغيره واشتهرت قصيدتاه «جفرا» و«بالأخضر كفناه». ساهم في تطور الشعر العربي الحديث وتطوير منهجيات النقد الثقافي. وصفه إحسان عباس كأحد رواد الحركة الشعرية الحديثة».
المناصرة أوصى أن يدفن في جبل الخليل، في أرض عاش يقدس ترابها، لكن حال الدنيا مع تداعيات كورونا، ضمت رفاته تربة عمان التي عاش فيها ثلاثة عقود من الحياة والكتابة والعمل الأكاديمي.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا