عندما تولّى باراك أوباما رئاسة جمهورية الولايات المتحدة الأميركية، كان حريصاً على إظهار وفائه لهويته العرقية. كان همّه الأبرز في الداخل الأميركي، تصوير نفسه كمنتصر لقضية الأفارقة-الأميركيين، فعمد إلى تسويغ خطابٍ يسمح له باستقطاب الفئات الأكثر تضرراً وتهميشاً، مقدّماً وعوداً أشبه بتعويضات عن حقوقهم المهدورة، والضائعة، تؤمّن لهم ملاذاً آمناً فيما تجعله يبدو كمنقذٍ. في أحد خطاباته عام ٢٠١١، عاد وكرّر انتقاده للمجالس القضائية والمحكمة الجنائية التي تمارس العنصرية بالتمييز والتفريق استناداً إلى لون البشرة من جهة، وعلى تقاعسها (لامبالاتها) في الوصول إلى نتيجة حاسمة، عادلة، في العديد من المسائل القضائية العالقة من جهة أخرى، مشدّداً بإصرار على معرفة حقيقة ما حصل في قضية المغنييْن نوتوريوس بي. أي. جي وتوباك شاكور اللذين قضيا قتلاً بدون معرفة الفاعل. أتت خطبة أوباما المطالِبة بالكشف عن الملابسات للوصول إلى خاتمة واضحة حيال تلك الجرائم بعد مضي حوالى عشر سنوات تقريباً على دعوى قضائية تقدمت بها فوليتا والاس والدة نوتوريوس بي. اي. جي ضدّ شرطة لوس أنجلوس بتهمة التلفيق والتواطؤ على مقتل ابنها البالغ ٢٤ عاماً، أثناء زيارته لكاليفورنيا للترويج لألبومه الثاني Life after death عام ١٩٩٦ من قبل مجهولين أطلقوا عليه النار من السيارة. الدعوى عُلّقت، لم تصل إلى جدوى، ووعد أوباما بالوصول إلى العدالة بقي «وعداً أميركياً» لم يُنفذ.
من وثائقي Biggie: I got a story to tell الذي طُرح أخيراً على نتفليكس

خلال تلك الفترة، أو للدقة؛ منذ أواخر التسعينيات، وشركات الإنتاج والصحافة الفنية لم تترك شخصاً له علاقة قريبة أو بعيدة، بـ «الرابرز» المذكورين، ولم تقابله للبحث عن تفاصيل متعلقة بهما، أو لم تخصص فريقاً معنياً بالتقصي للغوص في مشهد الراب الذي كان قائماً آنذاك للتنقيب عن السياقات الاجتماعية والدوافع التي أودت إلى نهاياتٍ تراجيدية لفنانين يُعتبران أهم من دخل مجال «الهيب هوب» أسلوباً، كلاماً وإلقاءً، بغية الكشف عن الأسرار المخبأة التي لم يُعلن عنها، ولو الحصول على خيط رفيع ينجح في فكّ العقدة. خيط قد يحلّ لغز الموت المباغت الذي طاولهما. القصص عن نوتوريوس بي. اي. بي (وأيضاً عن توباك شاكور) قيلت، رويت، وحُكيت، مراراً وتكراراً، أنتجتها تلك الأفلام (والمقالات) وتناقلتها الألسن على مدى كل تلك السنين، وهي منتشرة في الشوارع ومحفورة في الأرشيف. والأهم أنها موجودة بحذافيرها في أغانيه. لكنّ قصة نوتوريوس بي. اي. جي بقيت مغمورة، ترزح تحت بريق الشهرة الساطعة التي حقّقها الأخير في مسيرته الفنية.
الفيلم الوثائقي Biggie: I got a story to tell الذي طُرح أخيراً على نتفليكس (إخراج اميت مالوي) من إنتاج فوليتا والاس (والدته) وشون كومبس (باف دادي)، قام بهذا الانعطاف تحديداً ليتخذ من هذا الموضوع مساراً: إنه قصة كريستوفر والاس، الإنسان (الشاب) الخجول والهادئ، الذي نشأ في أشرس شوارع بروكلين، وترعرع وسط أخطر تجّار المخدرات متسكّعاً مع أصدقائه في زوايا الأحياء الشعبية، ليصبح في ما بعد واحداً من أهم مغنّي الراب على الإطلاق.
يأتي العنوان «لديّ قصة لأرويها» بصيغة المُتكلم، بينما المتكلم غيّبه الموت، لكن هذا لا يقلّل، بل لا يؤثر في مصداقية العمل وفصاحة محتواه. الوثائقي مبني على مقابلات مع الحلقة الضيقة للراحل: والدته، مدير أعماله، منتجه، أصدقاؤه المقرّبون، وبعض الأشخاص الذين كان لهم تأثير مباشر عليه. وهو يرتكز بشكل أساسي إلى مشاهد أرشيفية حيّة، سجّلها دي روك، صديق نوتوريوس بي. أي. جي بكاميرته اليدوية الشخصية، لتكون مثل مذكرات يوميّة مصوّرة، لحظات حقيقية، حتى إنّ غالبية المشاهد المنقولة، كانت بطلب من نوتوريوس شخصياً، خصوصاً الحفلات التي أداها، إذ أراد أن يرى تفاعل الجمهور مع أغانيه بعد انتهائه من العرض.
نشأ كريستوفر والاس في أشرس شوارع بروكلين، وترعرع وسط أخطر تجّار المخدرات، ليصبح لاحقاً واحداً من أهم مغنّي الراب


على هذه الخريطة، تمّت هندسة الفيلم. عدا القيمة الجمالية لهذه المشاهد الأصلية، بإثارتها النوستالجيا والتماهي المباشر مع «ملك نيويورك»، اللقب الذي أطلقته عليه مجلة «سورس». هنالك سرديات المقربين، الذوات والشخوص التي حطّت بكامل ظلالها في دائرة كريستوفر والاس، لتكوّن أخبارهم عنه، أخباره هو، يرسمون ملامحه بدقة كما شاهدوها عن قرب، ينطقون بسيرته شفهياً، كما حكاها بنفسه وعلى طريقته، بلاغياً في أغانيه.
لحظة جنازة نوتوريوس بي. أي. جي، عائداً الى مدينته بنعش، ومرافقاً بموكب، بينما يتواجد آلاف المحبين والمعجبين على أطراف الطريق، بكل ما تحمله من وطأةٍ ولحظاتٍ مؤثرة، شكّلت المشهد الأوّل من الوثائقي، لينتقل المخرج من بعدها إلى وضع القصة في سياقها الزمني الطبيعي. ما سنشاهده لاحقاً هو سيرة كريستوفر والاس الذاتية، مستمدّة من مشاهد دي روك الخام، وتصاريحه الشخصية التي تلاها في مقابلات مصوّرة أجريت معه، بالإضافة إلى شهادة من عاشروه عن قربٍ في لحظات حميمية وشخصية، من الطفولة الى المراهقة ثم النجومية، فيكون كريستوفر والاس بذلك نقطة ارتكاز الوثائقي. المتحمّس المتشوّق لمعرفة أخبار إضافية عن الخلافات المُتشنجة التي نشأت بين الساحل الغربي والساحل الشرقي، والتي تمثلت بين نوتوريوس بي. أي. جي من جهة وتوباك شاكور من جهةٍ أخرى، لن يلقى مبتغاه. وحتى مَن يبحث عن معلومة جديدة تتمحور حول عالم نوتوريوس بي. أي. جي «الرابر» الصاخب لن يجد، ليس لأن الوثائقي غيّبها عن قصد، ما يضع نقطة سوداء على الفيلم، بل لأنّ كل هذا خارج الاهتمام، لا يدور في فلك المخرج أو الغاية من عمله، فيما جوهره الأصلي قائم على الوقائع لا على التحليل، وهمّه الرئيسي تصوير كريستوفر والاس مستقلاً عن أي شيء آخر: العناصر التي كوّنته، نشأته، وانتقاله من ناجٍ من حياة الشارع القاتمة والعنيفة، إلى نجمٍ وصلت صدى أغانيه في وقتٍ قصير من بروكلين إلى لندن.
ابن فوليتا والاس المهاجرة من جامايكا إلى أميركا، الطامحة بحياةٍ أفضل، التي كدحت في عملها كمعلمة، تربّى من دون أب. تعلّم في مدرسة كاثوليكية، لكنه سرعان ما تخلى عن دراسته واتخذ حياة الشارع مصيراً من دون أن يغفل تعلّم الطموح وتجاوز المأساة من إصرار والدته وقوّتها. خلفيتها وهويتها أسهمتا أيضاً بشكل رئيسي في تكوين نسيجه الفني والذاتي. زيارتهما لجامايكا عقب كل صيفية، عزّزت ثقافته الموسيقية، بدءاً من «الكاونتري» وصولاً إلى «الريغي»، كما صقلت موهبته، وعلّمته هيبة الميكروفون وقوّة الكلام المكثف إن خرج مصاغاً صحيحاً من الداخل.
في شارع «فيلتون» في بروكلين، عمل مع أصدقائه في تجارة المخدرات. من كان يزوّده بالمخدرات، ويعمل معه بشكلٍ لصيق، كان صديقاً مقرباً له، آمن بقدراته الإبداعية، فدعمه معنوياً وعملياً حتى لقي مصرعه في أحد الأيام. ثمن متوقّع يدفعه كل متورط في هذا المجال، إلا أن ما هو غير متوقع هو عدم وجود كريستوفر والاس معه عند وفاته. الحدث الذي أثّر في الأخير، وشكّل تغييراً في مسيرته الفنيّة، فبات متصالحاً مع فكرة البقاء على قيد الحياة، مقلّصاً من تهوره، ما جعله يكتب بأسلوبٍ أقسى، وبإلقاء فيه المزيد من الانسيابية. هنالك في تلك الأحياء، تعرّف إلى دونالد هاريسون، عازف الساكسوفون الذي عمل مع ارت بلايكي، مايلز دايفيس وآخرين، وكان الإعجاب متبادلاً. والاس رأى في هاريسون موسيقياً ناجحاً يعيش حياة رغيدة، وهاريسون رأى في والاس «قنبلة موقوتة»، مشروع فنان جاز، فأخذه بزيارات لمعارض الفن وأشرف على حساسيته الثقافية. علّمه تقنيات موسيقية أبرزها تحويل الإيقاع إلى لحن، مستمداً نصيحته من مناخ موسيقى «البي- بوب»، ليحفظها والاس ويحذو بها كل حياته. فلا عجب أنّ والاس ـ من خلال إلقائه ـ يجعل من جمله القصيرة الموزونة تبدو كأنها كلمة واحدة ممغوطة طويلة. لكنّ العجب الذي يصل إلى حدّ الغرابة، يكمن في أنّ والاس لم يكن يستمع كثيراً إلى موسيقى «الهيب هوب»، مفضّلاً «السول» والـ «أر. أند. بي». ويمكن اعتبار أنّ هذا العنصر هو أهم ما جمعه بالمنتج شون كومبز (باف دادي) المشهور بانتقائه ألحاناً مماثلة ليدخلها لاحقاً، بعد إجراء تعديلات عليها إلى حيّز الهيب هوب، وجعل علاقتهما تُشبه كما عبّر عنها أحد النقاد في الوثائقي، علاقة أي مخرج عظيم بممثل عظيم، مثل دي نيرو مع سكورسيزي أو باتشينو مع كوبولا.
ما يؤكده الوثائقي، بطريقة غير مباشرة، فيها من الإحالة المبطنة ما يكفي، أنه إذا كان للهيب هوب عند نوتوريوس بي. أي. جي قدرة على التجلي بشخصٍ، فسيكون حتماً شون كومبز. لقد اقتحمت هذه الموسيقى حياة السود بعدما خرجت من شوارعهم. أتت كمحاكاة لواقعهم، متخذةً مواضيعها من التهميش، بأسلوبٍ جامحٍ وفجٍّ، حتى باتت باباً للخلاص من مأزق وجودي مفروض بالفطرة. شكّل الهيب هوب هذه الفسحة لنوتوريوس بي. أي. جي وجسّدها شون كومبز بشركة إنتاجه وطاقاته، فانتشله من نزعته التدميرية، ومن تعلقه الشديد بمناخ الشارع ومغامرات التسكّع، والظروف القاتمة التي كانت تنتظره تباعاً، معبّداً الطريق أمامه بطلاقة. في زيارته لكاليفورنيا بعد ستة أشهر من مقتل صديقه اللدود توباك شاكور، وبنيّة إضفاء جوّ من الصفاء وفتح الطريق أمام «الطرف الآخر»، ذهب نوتوريوس بي. أي. جي ليروّج لألبومه الثاني «الحياة بعد الموت». فور انتهاء حفلته، وعند خروجه متوجّهاً إلى فندقه، قُتل بعدما أطلقت عليه أربع رصاصات، بطريقةٍ غامضة، فيها الكثير من التأويل والروايات التحليلية غير الموثّقة. مات نوتوريوس بي. أي. جي، إلا أن فنّه استطاع أن يحيا بعد موته، أن يكون خالداً، أن يكون الضوء الأخضر الفاقع من «الضوء الأحمر الذي يمكن أن يغيّر حياتك إلى الأبد» على حدّ تعبير دي روك، معلّقاً على الرحلة المشؤومة الأخيرة التي شرّدت الكثير من الرفاق وسجّلت فصلاً درامياً آخر في تاريخ الهيب الهوب.

Biggie: I got a story to tell
متوافر على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا