الفن، الأخلاق والمجتمع... وقضية حديثة يتم تناولها بطريقة معينة في «الرجل الذي باع ظهره» المرشّح لأوسكار أفضل فيلم أجنبي. الفن، والذهاب بعيداً في متاهاته، وما يحدّه. الأخلاق والأنانية كحاجة أساسية في عالم مليء بالمشاكل والغموض. المجتمع، والبورجوازية عندما يصبح الإنسان نفسه سلعةً فنيةً، والهجرة والرفاهية المفاجئة التي تُظهر الوجه الآخر منها، وتتحول إلى إهانات ومضايقات. المخرجة التونسية كوثر بن هنية، تطرح كل هذا في إطار قصة حب مضطربة، تنتقل بين دمشق وبيروت وبلجيكا. يوافق سام علي (يحيى مهاني) اللاجئ من سوريا إلى لبنان، على وشم تأشيرة شنغن على ظهره من قبل فنان معاصر مشهور، من أجل الحصول على واحدة حقيقية. الفكرة بالنسبة إلى الفنان تمثّل الاضطهاد الذي يعانيه السوريون في محاولتهم اللجوء إلى أوروبا. أما ليحيى، فهي الهروب من واقع وبلد تمزقه الحرب، ومحاولته لمّ الشمل مع حبيبته عبير (ديا ليان). الفيلم هو اعتذار حديث وذكي عن الهجرة والتسليع والفن والجسد، تجنبت فيه بن هنية الخطابة والكلام المباشر وإيذاء المشاعر، وافتقدت فيه إلى الجرأة المطلوبة لطرح موضوع مماثل، واستخدام قصة الحب كدافع خلخل النص وأظهر ضعفه مع تقدم الفيلم.معضلات معقّدة يفتحها الشريط، أثّرت عليه. الأخلاق والعدالة والحب وسوق البيع والشراء وطبيعة الفن نفسه. وجّهت بن هنية اتهامات غير واضحة، بعثرتها على مساحة الفيلم بمشاهد أنيقة ومنظمة، ما أدى إلى تشتيت المشاركة الفكرية والعاطفية للجمهور. اقتربت المخرجة من كل شيء أرادت قوله من دون الغوص فيه كلياً، ما عدا قصة الحب التي أعطتها أكثر مما تحتمل. الخيار الأسلوبي والسردي والتصوير (مدير التصوير اللبناني كريستوفر عون) الذي يؤكد على جماليات العمل الفنية الجذّابة والمدروسة والمُقنعة، دفعت الأفكار الرئيسية بعيداً، وأضعفتها لتصبح ثانوية، ما يعطي شعوراً بأن الفيلم ليس مكتوباً، بل هو مصمَّم. دراما أنيقة وعصرية مثيرة للاهتمام وساحرة، لكن المحتوى أقلّ شأناً من المعروض.
مفارقات لاذعة وناجحة، ورؤية كاملة معقولة عن أهمية العيش مع جسدنا وقدرتنا على التحرك بحرية أينما نريد في مرحلة جيوسياسية غير مستقرة. ما بدأ نقداً للفن وقوانين اللجوء؛ تحوّل إلى لعبة سياسية لدقائق معدودة، ثم إلى موضوع عن الإنسان وجسده وعن الابتزاز، تركت فيه المخرجة الهوية في الخلفية. ثم يتوقف الفيلم، لم تكن هناك نهاية، أو بالأحرى لم يتوقف حيث يجب أن ينتهي. بل توقف في مكان معين لم يكن له أي داع وكانت هذه نهايته، التي لا تعكس اتجاهه.
الفيلم مستوحى من أعمال الفنان البلجيكي ويم ديلفوي. وقبل كوثر بن هنية، رأينا عملاً مماثلاً يغوص في فكرة الفن المعاصر وهو «المربع» (سعفة كان الذهبية لعام 2017) للسويدي روبن أوستلاند. «الرجل الذي باع ظهره» مزيج جريء مما ذكرناه، وهو فيلم جميل لكنه حُمِّل أكثر مما يحتمل. الدراما والمأساة والرومانسية والهجاء والكوميديا السوداء والأزمة الإنسانية في سوريا واللجوء والسياسة والمعارضة والموالاة وأسواق الفن وتسليع الحياة البشرية... أفكار أكبر من أن تمرّ عليها كلها مرور الكرام... يمكن لشريط كوثر بن هنية، الوصول إلى أعين المشاهدين بسحره، ولكنه لم يتجرّأ على طرح الأسئلة المُحرجة، علينا نحن كعرب. فيلم يخاطب الجمهور الغربي أكثر من الجمهور العربي، ويجعله يتأثر لحالنا، ولكنّ المهم: هل نستعمل السينما لمخاطبة أنفسنا وإيجاد الأجوبة عن أسئلتنا، أم هدفنا فقط طرح قضايا أساسية تمسّنا من دون التكلم عنها بجدية وبنقد حادّ لأنفسنا قبل أي شخص آخر؟



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا