ترجمة: مزوار الإدريسي
يمكن لتاريخ مكان ما أن يتغيَّر، إلى الأبد، في غضون عشرة أيام، فبَعد جُونْ رِيدْ، على الأقل، أضحى لذلك الرقم المقدَّس في رمزيّة التوراة، بُعدٌ خاص من أجْل حكي زمن قصة الأحداث الكبرى، كما يمكن لصورة مدينة في المستقبَل أن يكون لها دَيْنٌ مُطلَق في نَظرات من يكتبون عن الأمكنة، والشعراءِ الذين يحكون عن إقامتهم، لكي يعودوا أبديّاً إلى تلك الأيام العشرة من تجربة ممَيَّزة، ومن ملحمة خاصة إلى المدينة التي سيُحلَم بها.

ولربما يكون الوضع العالمي للجَدل بين الخيال والواقع في أدب الرحلات، يقوم على زمن شبيه بعشرة أيام، مثل كَفَّيْ يَدَيْ بُولْ بُولْز المبسوطتيْن والجامعتيْن لأعوام طنجة. بَحْرٌ أخضرُ ليْمونيٌّ خَنقَه ضياءٌ يأتي من نافذة. هذه هي البداية وصورة لبنان المُعمَّدة لدى الشاعر رُودولْفُو هاسْلِر (سانتياغو دي كوبا، 1958) التي أهداها إلى قرائه في ديوانه المنشور الجديد «دفتر بيروت» (دار پُولِيبِيَا). إنها عشرة أيام، خلال شهر شباط (فبراير) 2019، وفيها تتحقق للشاعر روعةُ الشهادة التي توجد في هذه المسافة الزمنية في صيغة سحرية، وغير مُنتَظرَة، وتكاد تكون تحت وقع الحظّ اللِّيزَامِيّ (نسبة إلى الشاعر لِيزَامَا لِيمَا). يتضوَّع المطر، يُراقب من النافذة صمتَ بيروت الغامضَ، ينطفئ النورُ في زيارة لإحدى المكتبات، تحديداً أمام كُتب الشعر. رُودولْفُو هاسْلِر شاعر رحّالة يعْبُر المحيطات، تختلط لمحاتُ وجهه المنتمية إلى الشرق الكوبي بإقامته في برشلونة المتوسطية. إن نسيمَ الكانتونات السويسرية الممتد في ذاكرته يُستشفُّ في نزوعه الكوسموبوليتاني الرائد الذي ينبسط في قصائده، وفي كل مُدخل إلى هذه اليوميات البيروتية، وفي حواراته يوماً تلو آخر.
على مقعد في «سِيبْرِيس تْرِيَانْغل» Cypress Triangle، يحرق الشاعر ظَهر يده بالقُرّاص، وكذلك تنفرط حَبّات سبحة كانت في يده أثناء صعوده السلالم الأسطورية لمار نقولا في الجميزة. في مدينة بيروت، شيءٌ ما من فم الشاعر يختفي، وفي حجر بعلبك يكتشف أن كلَّ جامد يتحدَّث في الهواء، في لحظة اكتشاف غير متوقع من اليوم الذي ينتهي بعد الخروج إلى جبيل، تقع في يديه ثقَّالة رصاصية لشباك الصيد، التي تحسم مجدَّداً وعبر المصادَفة أمْرَ القرابة بين أعماق المياه وكتابة الرحلة. إنها عشْر وصايا لإبحار حالم، ولخريطة الغنائية الشعرية، وللتسكع الساحر. مدينة بيروت، المخرَّبة في الشهور الأخيرة بسبب انفجار مينائها، هي المكان نفسه لليالي الشاعر في عام سابق، تَنبعث من بين أنقاض الحرب، وفي كلمات مَنْ زارها، تُغيّر تاريخها من جديد وتنهض مرَّة أخرى في الخيال المكتوب، وفي المَعيش المُخَلّد، طيلةَ الزمان المُشتَرك مع من يقرأ «دفتر بيروت». وبالمناسبة، الكتاب شبيه في قدرته الإبداعية وفي الحُمولة الطُّوباوية الحاضرة في صُوَر الفنان اللبناني وَليد رعد، الذي تقترح لقطاتُه الفوتوغرافية لسيارات مفخَّخة وبنايات مائلة، حكايةً أخرى، ووثيقة أخرى، وإمكاناً آخر.
شاعر رحّالة يعْبُر المحيطات، تختلط لمحاتُ وجهه المنتمية إلى الشرق بإقامته في برشلونة المتوسطية


تتحوَّل رحلةُ رودولفو هاسلر هذه إلى المدينة، التي لها ماضٍ غريب وحميم، مُستحضَراً في وجوه أصدقائه اللبنانيين في الثانوية، إلى كِتاب خرافات، وإلى حكيٍ لعبور بحري وأعمال سحرية، وإلى رواية دقيقة وسرّية عن مدينة عربية، انطلاقاً من نَظَرٍ شِّعريّ جامح يَنقلب إلى كونيّ عند القارئ، الذي يمكن أن يصير جواز المرور الوحيد في المستقبل للإفلات من التَّكرار المُصطَنع، ومن حرب الفنادق الخَرِبة التي تُواصِل الحياةَ في وسائل التواصل وفي التاريخ الرسمي. إنه هبة من الحواس والحظوظ يَعهَد بها الشاعر إلى صفحات «دفتره»، في صيغة أعادت خلق العالم في عشرة أيام، وإلى من يحلم في مكان ما، وإلى المدينة التي تُزار دائماً أبداً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا