يعمد روائيّون ــــ هم حقيقة أقرب إلى السحرة ــــ إلى الاستيلاء بكلماتهم على ركن معيّن من تصوّرنا عن العالم وتجربتنا في الحياة على نحو لا يعدّ بَعده ممكناً الالتجاء إلى ذاك الرّكن من دون العُبور بنصوصهم الممسوسة. إذا تأملت مثلاً في حال البشرية في ظل الرأسماليّة المتأخرة، فذاك ألدوس هيكسلي، وإذا اضطررت للتعامل مع بيروقراطيّة عقيمة خاطئة، فهو فرانز كافكا، وإن أخذتك الأقدار إلى أميركا اللاتينيّة، فلا بدّ من غابرييل غارسيّا ماركيز. أما الروائي الذي يحتل بالفعل المساحة الكبرى من واقعنا اليوم في زمن ما بعد الجائحة، فليس سوى الإنكليزيّ جيمس غراهام بالارد (1930 – 2009). مذْ قبض اللعين كوفيد ــ 19 على خناق الكوكب ذات آذار، أصبح مستحيلاً ألّا تتعثر ببالارد هنا أو هناك. سفينة سياحية فاخرة تُحجز في الحجر الصحي قبالة خليج سان فرانسيسكو، ركابها من البرجوازيين الرقيعين، محصورين في كبائنهم لأسابيع، فيعذّبهم الملل؟ (بالارد). مصطافون يُحتجزون في فندق بعد تفشي وباء فيروسي غامض نقله لهم طبيب إيطاليّ؟ (بالارد). عالم من الأفراد المعزولين نادراً ما يغادرون منازلهم مع الاحتفاظ بتباعد اجتماعي بينهم في الأماكن العامة، واقتصار تواصلهم مع أصدقائهم وأحبائهم على الشاشات الإلكترونيّة حصراً؟ إنّه بالارد، كأنّه معنا الآن، هنا.
ربّما لم يشتهر بالارد كثيراً خارج بلاده، رغم أن معظم أعماله تحوّلت إلى أفلام سينمائيّة ومسلسلات مشهورة. لكن الكثير من واقعنا الحالي وكأنّه فرّ من مخيلته العجيبة. نثره (روايات وقصص قصيرة) متخم بحكايات الحجر الصحيّ، والعزل الذاتي، ولحظات الملل التي سرعان ما تغرق فيها الطبقة البرجوازيّة وتدفعها إلى التعويض بالصخب والعنف والجنس المتوحّش.

رغم خياله الجامح وخلفيته البرجوازيّة، التزم الكتابة دوماً بلغة متقشّفة وبالعيش المتواضع

في «الاستمتاع بوقت رائع» (1982) ونقلاً عن بطاقات بريديّة ترسلها تباعاً شابة ذهبت في إجازة قصيرة مع زوجها إلى جزر الكناري، يحكي كيف تحوّلت حياة التبطّل والمجون إلى كابوس مروّع بعدما قرّرت السلطات الأوروبيّة فرض إقامة جبرية مفتوحة على المصطافين في الجزيرة، وجلّهم من طبقة المديرين المرفّهين الذين لم يعد بالمقدور إعادتهم إلى بلادهم وعادت شركاتهم للعمل من دونهم. أحداث «وحدة العناية الحثيثة» (1977) تجري في عالم يعيش فيه البشر حياتهم كلّها في عزلة قانعين، يتفاعلون مع الآخرين، حتى مع أسرهم المباشرة من خلال الكاميرات والشاشات. الراوي لم يسبق له أن تعامل مع إنسان آخر وجهاً لوجه، ويعيش أيامه في نوع من منزل/ صندوق متطوّر تكنولوجيّاً: «تربيتي الخاصة، وتعليمي وممارسة الطب، ومغازلتي لمارغريت وزواجنا السعيد، وقعت كلها داخل المستطيل الضخم لشاشة التلفزيون». ومن الواضح أنّ هناك تباعداً اجتماعيّاً قاسياً يلتزم به الجميع لأسباب ربما كانت تتعلّق بداية بانتقال الأمراض، لكنّه مع مرور الوقت أصبح بمثابة حاجة سايكولوجيّة محضة بعدما فقد الناس القدرة على تصوّر وجود دائم للآخر خارج الشاشة. ولا تبدو هذه الدرجة من الوجود تؤدي إلى شعورهم بالاغتراب (وفق المفهوم الماركسي)، إذ أن سلواهم وعزاءهم وعملهم وغرامياتهم وذكرياتهم وألعاب ترفيههم وموسيقاهم وكتبهم ومسلسلاتهم المفضّلة قريبة منهم دائماً على الشاشات الضخمة في معازلهم على نحو قد يتسبب لهم بالتوتر إن هم ابتعدوا عنها طويلاً. إنه خيال روائيّ يتسبب للقارئ في الاختناق، ويتطابق بشكل مقلق مع سيرة واقعنا الحالي، لكن لحظة الرعب التي تقشعر لها الأبدان، تحدث عندما يندفع راوي القصّة وزوجته للالتقاء جسديّاً بعدما بلغ الاشتياق بينهما ما بلغ. تسافر الزوجة 30 ميلاً لتزوره في منزله ليتحوّل اللقاء إلى كارثة تامّة. فبدون المكياج الذي يضعه الجميع لتجميل صورته عبر الشاشة – تخيّل الفلاتر على صور انستغرام – يبدو الزوجان بعضهما لبعض غريبين وبشعين ومثيرين للنفور جنسيّاً. وعندما تُستدعى العائلة جميعها لإصلاح ذات البين، تتحول القصّة إلى عربدة سايكولوجية من العنف المتبادل: ماذا ينفعك العقل إذا أصيب جميع من حولك بالجنون؟ ليس معروفاً إذا كان بالارد يرى في الحضارة مأساةً تامّة، أم أنّه فقد الثقة نهائياً بقدرة الإنسان على تجاوز طبيعته الحيوانيّة. وهل يرمي إلى تحذيرنا أم إلى السخريّة منا، إلا أن النتيجة دائماً كوميديا سوداء مقذعة بحق عن انتكاس البشريّة الحتمي وغلبة الهمجية.
يصل نقد بالارد إلى المآزق السايكولوجيّة للبشر الذين يعيشون في الفقاعة البرجوازية إلى أعلى مستوياته في روايته الشهيرة «هاي رايز» (1975 ـ تحوّلت إلى فيلم سينمائي). نص سورياليّ بامتياز يصف ببرود قاتل كيف يغرق سكان برج سكني فاخر انقطعوا عن التعامل مع العالم خارج فقاعتهم، في فوضى تدمير غرائبيّة سائلة، تتحوّل تدريجاً إلى بحر من عنف الجميع ضد الجميع، لم يسلم منه أحد حتى الكلاب. وفي «المملكة الآتيّة» (2009 ــ آخر رواياته قبل رحيله)، بريطانيا مستقبليّة تنهشها النَّزعات الاستهلاكيّة وتنزاح رويداً رويداً نحو الفاشيّة والانعزال. عندما تقرأها الآن، تظنّها تقريراً صحافياً مطوّلاً عن أوضاع المملكة ما بعد بريكست، لا رواية عن ديستوبيا مستقبلية.
من أين أتى بالارد بخياله المثير للاكتئاب هذا؟ يعتقد النقّاد أن سنوات قضاها رفقة عائلته أيّام مراهقته في معسكر احتجاز ياباني في شنغهاي (الصين) كان قد خُصّص للمدنيين مواطني دول الحلفاء إبّان الحرب العالميّة الثانية شكّلت إحساسه بالعالم بشكل حاسم. وهو في «إمبراطورية الشمس» (1984) التي تستند بشكل فضفاض إلى هذه التجربة، كشف بشكل حاسم عن المنجم الذي يستخرج منه ذهب خياله ليصنع منه خيوطاً تنسج بها الحكايات والقصص. هنا البريطانيّون البرجوازيّون الذين قضوا معظم أوقاتهم في الشرق الأقصى يتبارون بالتنس والكريكيت ويعاقرون ألعاب الترفيه، ملأوا حقائبهم - عندما طُلب إليهم الانتقال إلى معسكر الاحتجاز - بالمضارب وعِدَدِ اللعب كأنهم يتوقعون قضاء فترة عزلتهم خلال الحرب تماماً كما خبروا الحياة المترفة في فقاعتهم. لقد أحضر بعضهم مضارب الغولف وسنارات صيد السمك. البلاهة التامّة.
نثره متخم بحكايات الحجر الصحيّ، والعزل الذاتي، ولحظات الملل التي سرعان ما تغرق فيها الطبقة البرجوازيّة


من الرّموز التي حملها معه بالارد من تلك الفترة كان مشهد أحواض السباحة التي لم تعد فيها مياه بعدما انحطّ عيش أصحابها المرفهين وعصفت بهم الأيّام. صورة أنتروبيا أكيدة تنتظر كل برجوازي فاسد تكرّرت لاحقاً في غير عمل له. في «هللو أميركا» (1981)، تبدو أحواض السباحة الفارغة كأنها تغطي كل القارة المنكوبة. وفي «ليالي الكوكايين» (1996)، يتوسط النادي الفخم المهجور حوض سباحة هائل جفّت مياهه ولم يعد يحفل به أحد. بعد أن تقرأ بالارد، لا تمتلك إلا أن تشعر بالتشاؤم (أو بالتشفي بحسب وضعك الطبقي) كما شاهدت حمّام سباحة مهجوراً وخالياً من المياه. عنده، هذه منازل الضواحي الفاخرة التي بُنيت وفق الحلم الأميركي – وفي كلّ منها حمام سباحة مبذّر - كانت الإيذان بنهاية التاريخ وبداية مرحلة التفسّخ. يقول: «كل الذي نحن بحاجة إليه بعدها قنبلة نووية أو تسونامي أو وباء كي يكتمل السقوط».
مع كل ذلك، فإن بالارد لم ير نفسه يوماً عرّافاً يقرأ المستقبل، بل «رجل شديد التصالح مع حقيقة كونه عادياً للغاية». رغم خياله الجامح وخلفيته البرجوازيّة التي تنتمي إلى أجواء آخر الإمبراطوريّة البريطانيّة الآفلة، التزم الكتابة دوماً بلغة متقشّفة وبالعيش المتواضع، وعمل في وظائف صغيرة ولم يطق أجواء «جامعة كامبريدج» المدّعية. أصرّ دوماً على أنّه لا يمتلك نظريّة بشأن العالم وأنه يكتب لمحض دفع الملل، ذلك الشّعور البرجوازي المقيت الذي ورثه عن أسرته. رحل بالارد قبل عقد ونيّف، لكن خياله النابض ما زال هنا، وهو التقى كوفيد ــ 19 كما يلتقي أحدهم بشخص يعرفه من قبل، وذكّرنا أنهّ حذّرنا قبل عقود من ظهوره المشؤوم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا