عندما انطلقت حملة #MeToo الشهيرة، التي هدفت إلى فضح ارتكابات التحرّش الجنسي لشخصيات ذات نفوذ في مجالها، تجاه العاملين تحت سلطتها، كان متوقّعاً أن تصل إلى الموسيقى، وتحديداً الكلاسيكية الغربية. فهذا النمط الموسيقي يتميّز بهيكليات تأخذ أشكالاً مؤسّساتية وتفرض بالتالي وجود هرمية ما، ضمن بعض مجالاتها، كدور الأوبرا والأوركسترات الكبيرة. أول اسم أدرجه الضحايا على لائحتهم المتعاظمة منذ إطلاقها، في مجال صناعة الموسيقى الكلاسيكية، كان جايمس ليفاين (1943 — 2021). الخبر نزل كالصاعقة على عالم الكلاسيك وكالزلزال المدمّر على الولايات المتحدة الأميركية. فالرجل ليس رمزاً عالمياً كبيراً في مجاله فحسب، بل هو الملك المتربّع على عرش الـMet (ميتروبوليتان أوبرا)، أكبر دار أوبرا في أميركا (ومن الأهم في العالم) منذ أربعة عقود، وصانع المنافسة الحامية في إنتاج وقيادة الأعمال الأوبرالية مع «لا سكالا» (إيطاليا) و«كوفنت غاردن» (دار الأوبرا الملكي / بريطانيا) و«أوبرا باريس» (فرنسا) وغيرها. أمّا الجانب الأسوأ في الفضيحة، فأتى من حيث لم يتوقّعه، منطقياً، أحد. ففي مجال الأوبرا، العنصر النسائي أساسي، وعلاقة المغنيات تكون مباشرة مع قائد الأوركسترا، من اختيار الأصوات للأدوار المناسبة إلى التمارين الجانبية والتمارين العامة. لكن قنبلة فضيحة جايمس ليفاين، الذي رحل أخيراً (في 9 الجاري، لكن إعلان الوفاة تأخّر إلى أول من أمس)، أتت حاملةً رأساً نووياً: البيدوفيليا! الرجل الموهوب موسيقياً، لكن «المريب» الملامح، تحرّش بفتيانٍ قُصَّر من التلاميذ الموسيقيين الذين يتمّ إعدادهم ضمن أكاديميات تابعة لمؤسسات عمل معها ليفاين (الـMet وغيرها)، على مدى أكثر من عقدين، بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي. النتيجة الأولى للفضيحة: تعليق فوري لنشاطات ليفاين (2017) وإلغاء كل المواعيد المدرجة على روزنامته، ثم إعفاؤه نهائياً من مهامه، بعد تبيان بعض الحقائق والمعطيات، كمدير فني للدار وكقائد للأوركسترا التابعة لها (2018). القرار كان سريعاً، حاسماً، صعباً على الإدارة العامة للدار، لكنّ الاحتمالات لم تكن كثيرة أمامها (رغم اتهامها لاحقاً بأنها كانت على علم ببعض ارتكابات ليفاين وحاولت التغطية عليها لأسباب مادية ومعنوية). فالفضيحة عيارها ثقيل وقرار «إعدام» جايمس ليفاين مهنياً لا يمكن أن يحمل أي مواربة. الخانة الخاصة بالموسيقى الكلاسيكية من لائحة #MeToo أُدرِجت تحتها لاحقاً أسماء كثيرة (أبرزها قائد الأوركسترا شارل دوتوا)، لشخصيات ذات حيثية عادية ولأسماء غير معروفة خارج نطاق مجالها، قبل أن يدق ناقوس الفضائح بنبرة مدوية ستطاول هذه المرة، أيضاً في مجال الأوبرا، صوتاً عملاقاً وشخصية من أجمل وأكبر ما شهده تاريخ الكلاسيك، التينور الإيطالي بلاسيدو دومينغو (1941)، الذي رمت عليه بعض المغنيات تلك التهمة، المدانة بدون تحفّظ إن صحَّت، لكن المطّاطة والظالمة أحياناً (حيث لا قيمة تذكَر لقرينة البراءة على مواقع التشهير الاجتماعي)، لا كما يصفها دومينغو رافضاً ما وصفه بالتجنّي المقصود عليه، بل كما قاربتها أكثر الأقلام المتخصّصة تحمّساً ودعماً للحملة والضحايا. فمجلّة «ديابازون» الفرنسية منحت غلافها لدومينغو قبل شهرين (عدد كانون الثاني/يناير)، لا لتبرئته، بل لوضع الأمور في نصابها كي يستوي ميزان العدل، منعاً لانتقال بعض الضحايا إلى موقع الجلّاد في اللعبة الخطرة التي تستبدل «نَسَوية التقدّم» بـ«نَسَوية الدعوى». لكن ما اعتُبر ممكناً قانونياً وأخلاقياً وإنسانياً في حالة التينور العملاق، بدا مرفوضاً من الجميع في «ملف» سفّاح الـMet.
هكذا، مات جايمس ليفاين تاركاً بصمتَين ووصمة. بصمة إبداعٍ في مجال الأوبرا والموسيقى الأوركسترالية عموماً (من خلال «أوركسترا بوسطن السمفونية» وغيرها)، تميّزت بغزارة إنتاج استثنائية (قاد «أوركسترا الميتروبوليتان» أكثر من 2500 مرّة!) مدعومة بإنتاج مصوّر يحمل الختم «الملكي» الأصفر للناشر الألماني «دويتشيه غراموفون»، وبصمة مقيتة على أجساد فتيانٍ لا حول لهم أمام جبروت الرجل القادر على تحديد مصائرهم ومستقبلهم المهني… ووصمة عار على جبين الموسيقى الطاهر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا