لنتفليكس علاقة خاصة بمسلسلات الجريمة المتداخلة بالسياسة، بداية من «هاوس أوف كاردز» عن نخبة واشنطن الفاسدة، ولاحقاً «ناركوس» بنسختَيه الكولومبيّة والمكسيكيّة، ثمّ «ذا ميكانيزم» البرازيلي. جميعها حقّقت أرقام متابعة قياسيّة. لكن بالطبع، لا تكتمل صورة الفساد المعولم من دون حكاية عن المافيا الإيطاليّة. «سوبورا: دماء على روما» يكمل أضلاع المربّع في قصة تستلهم فضيحة سياسية من واقع الحياة: معركة تملّك شريط ساحلي جنوبي روما تصطدم فيها أطراف من الجريمة المنظّمة والعصابات المحليّة مع المطوّرين العقاريين والشخصيات السياسية والفاتيكان والشرطة. تضمحلّ الخطوط الفاصلة بين القانوني وغير المشروع، وبين المجرمين والضحايا وبين العنف والدّهاء. في «سوبورا»، روما هي روما. لم يتغيّر الكثير في هذا المكان منذ ألفَي عام: ملحمة مستمرّة أبطالها شبكة متداخلة من سياسيين طامحين وأرستقراطيّين نبلاء، ورجال عصابات وبائعات هوى وكرادلة وتجار وبيروقراطيين ومهمّشين ومهاجرين تتقلب أقدارهم جميعاً على خلفيّة معمار لا مثيل لجماله في الكوكب.تتوافر دلائل تاريخية على وجود المافيا الإيطاليّة منذ 175 عاماً، أي أنها أعرق من وحدة إيطاليا المعاصرة كما نعرفها الآن (1870)، وأكبر من عمر الجمهوريّة بقرن كامل على الأقل، وهي في هذه البلاد العريقة أكثر بكثير من مجرّد عصابات إجرامية من زعران الأحياء الفقيرة، بل نحن بصدد منظمات متقنة التركيب، لها تقاليدها العريقة، ويسمح لها نفوذها وطموحها باحتكار شبه كليّ لسرد الأحداث المتعلقة بها، حتى ليبدو تاريخها كأنّه دُوّن على يد لجنة ثلاثيّة تمثّل التنظيمات الثلاثة الكبرى في البلاد التي تشبه جزمة ممتدة في قلب البحر الأبيض المتوسّط: المافيا من باليرمو، الكاموروا من نابولي، الدرانجيتا من كلابريا.
ومع ذلك، لا شكّ في أن قادة هذه التنظيمات الثلاثة يتمتعون بثروات خياليّة ومكانة مجتمعيّة ونفوذ متّسع. وهم لا يكتفون بتنظيم العنف الدموي لضمان تحقيق أهدافهم عبر نهر ممتد من جثث الضحايا، ولا يقتصر دورهم على امتصاص دماء الشعب الإيطالي وتدمير مقدّراته وإهدار موارده لمصلحة القلّة. هم – وهو الأمر الأخطر – يشكّلون نخبة حاكمة موازية للبرجوازيّة الإيطاليّة، تخترق أيديهم كل مؤسسات الدولة الإيطاليّة بسلطاتها الأربع: من الشرطة إلى القضاء، ومن البرلمان إلى البلديّات المحليّة، ومن الوزارات وأجهزة الدولة إلى مصالح الأعمال، ومن قصر كيجي (مقر رئاسة الحكومة) إلى الفاتيكان، ومن الجامعات إلى الإعلام. وبحسب التحقيقات التي أُجريت في الثمانينيات والتسعينيّات، فإن تحالفاً آثماً ثلاثياً من المخابرات الأميركيّة والمافيا والفاتيكان تآمر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على إبقاء مفاتيح السلطة بيد اليمين الإيطالي الرجعي ومنع صعود اليسار الذي قاد أعمال المقاومة ضد الفاشيست خلال الحرب، وكان يتمتع بتعاطف غالبيّة من السكان. لذا، فإن الحدث الإيطاليّ بقي محكوماً منذ قيام الجمهوريّة في عام 1946 بتشابك خيوط غامض بين أطراف السياسة والجريمة والفاتيكان، من دون أن يمتلك أحد القدرة على فصل تلك الخيوط أو تحديد المسؤوليات بدقّة.
فضاء التقاطع الإيطالي بين السياسة والجريمة، كان لا بدّ من أنّه سيجلب منصّة نتفليكس بالذات، خصوصاً بعدما ذهب مسلسل دراما المافيا «غومورا» عن قصّة روبرتو سافيانو إلى شبكة «سكاي أتلانتيك». لنتفليكس علاقة وثيقة بمسلسلات دراما الجريمة المتداخلة بالسياسة، بداية من «هاوس أوف كاردز» عن نخبة واشنطن الفاسدة، ولاحقاً «ناركوس» بنسختَيه الكولومبيّة والمكسيكيّة، ثمّ «ذا ميكانيزم» البرازيلي، وجميعها حقّقت أرقام متابعة قياسيّة - ولا تزال - وجلبت أعداداً استثنائيّة من المشتركين الجدد. ولأن صورة الفساد المعولم بالطبع لا تكتمل بدون حكاية عن المافيا الإيطاليّة، كان لا بدّ من «سوبورا: دماء على روما» أوّل إنتاجات نتفليكس باللغة الإيطاليّة. و«سوبورا» اسم حيّ قديم في المدينة تخصّص في أوقات تاريخيّة ببيع المتعة ويغلب عليه الفقراء الآن. المسلسل الذي يقع في 24 حلقة وُزعت على ثلاثة مواسم، أخرجه ستيفانو سولليما (مخرج «غومورا») وكتب نصّه دانييلي سيزارانو وباربرا بترونيو. يستلهم أحداثه من فضيحة سياسية حقيقيّة بشأن معركة تطوير شريط ساحليّ جنوبيّ العاصمة روما في حكاية تصطدم فيها أطراف من الجريمة المنظّمة والعصابات المحليّة مع المطوّرين العقاريين والشخصيات السياسية والفاتيكان والشرطة والصحافة، بينما تضمحلّ الخطوط الفاصلة بين ثنائيّات القانوني وغير المشروع، وبين المجرمين والضحايا، والعنف والدّهاء، والخيانة والولاء، والعهر والحب. في مسلسل «سوبورّا»، روما هي روما. لم يتغيّر الكثير في هذا المكان منذ ألفَي عام: ملحمة مستمرّة أبطالها سياسيون طامحون وأرستقراطيّون نبلاء، ورجال عصابات وبائعات هوى وكرادلة وتجار وبيروقراطيّون ومهمّشون ومهاجرون، تتقلب أقدارهم جميعاً وتتشابك على خلفيّة معمار لا مثيل لجماله في الكوكب. وعلى الرغم من أن السرد الدرامي فيه يعاني من عيوب بنائيّة وثقوب في نسيج الحكاية، إلا أن التفكيك الدقيق لخيوط الاشتباك بين مختلف الأطراف الذي يقوم به المسلسل، يقدّم مع التشويق بنكهة إيطاليّة مميزة، نظرةً من أدقّ ما يكون عن كيفيّة صنع الأيّام في روما، وكل العواصم كأنها نسخ محليّة من روما.
يستند العمل إلى رواية بالعنوان نفسه (2008) سجّلت بلغة الأدب قصة واقعية حُوّلت لاحقاً إلى فيلم (2015)، ويبدو كأنّه عودة بالتاريخ إلى سنوات عدة قبل أحداث الفيلم. محور المسلسل الأساسي علاقة بين ثلاثة شبان من بيئات اجتماعيّة مختلفة يُقدر لهم أن يلتقوا حول هدف السيطرة على صناعة القرار بشأن الشريط الساحليّ: أوريليانو آديمي (أليساندرو بورغي) وهو بلطجي أشقر والده تاجر مخدرات محليّ يمتلك حقوقاً جزئيّة في الشريط الساحليّ، جابرييل مارشيللي (إدواردو فالدارنيني) هو تلميذ وابن شرطي، لكنه يتاجر على الهامش بالحبوب المخدّرة وبائعات الهوى، وألبرتو «سبادينو» أناكليتي (جياكومو فيرارا) وهو ابن عائلة من «الغجر» تحترف تجارة المواد غير المشروعة. وفيما يحاول هؤلاء المبتدئون الحصول على «الكعكة»، عليهم أن يتنافسوا مع مخضرمين أكثر خبرة وربما أكثر قسوة منهم: الساموراي (فرانشيسكو أكوارولي) وكيل المافيا في العاصمة، وسارة موناتشي (كلوديا جيريني) الزوجة الطموحة الجامحة لمطوّر عقاري كبير تعمل محاسبة في مجلس الفاتيكان، وأماديوس سيناليا (فيليبو نيغرو) السياسي المتواضع لكن المتعطّش للسلطة وغيرهم. ومع ذلك، فإن البطولة في «سوبورّا» ليست مركزيّة، وتتقاسم مسرح الجريمة المترامية الأطراف عدّة شخصيّات سوى الشبان الثلاثة - لا يتسع المقام لذكرها جميعاً – وكلّ منها تجلب مآزقها الشخصيّة والطبقيّة والمهنيّة لخلطة المدينة العريقة التي في النهاية تبدو كأنها البطلة المطلقة الخالدة للحكاية.
شخصيات تجلب مآزقها الطبقيّة والمهنيّة لخلطة المدينة العريقة التي تبدو كأنها البطلة المطلقة والخالدة للحكاية


مشاهد «سوبورّا» كثيفة على الحواس: فبغير المدينة/ المسرح، والموسيقى التصويرية (للفنان الإلكتروني لوسييل) التي تلوّن المزاج وتتخلله كما روح جامعة تحلّق حول خيط السرد الذهبي للسرد، هناك كثير من الحوارات المطوّلة، ومؤامرات الابتزاز، ومشاهد العُنف، والتواءات الأحداث، ونماذج متعددة من العشق الحرام، والحبّ الصافي. كما أن تعدد الشخصيّات يسمح لكل منّا بقراءة تقلّب الأحداث وفق اهتمامه الخاص: الفساد المحتّم للسياسيين، رأس المال المجرم، انحطاط رجال الدين، اغتراب الشبان في مجتمع يطارد المادة، قدر المرأة في مجتمع بطريركيّ، العلاقات المثليّة والديناميّات الجنسيّة المعقّدة، تناقض القيم والمصالح، صراع الطبقات واندماج الأقليّات. الخيار دائماً لك.
تاريخيّاً، ربّما يمكن قراءة «سوبورّا» بوصفه تسجيلاً للمرحلة التي تعيشها إيطاليا بعد تراجع نسبيّ للمافيا الإيطاليّة الكلاسيكيّة المحترفة (على نسق ثلاثيّة فيلم «العرّاب» المأخوذ عن روايات ماريو بوزو) ــ بعد جولة عُنفها المجنون في الثمانينيات والتسعينيات - لمصلحة العصابات المجرمة العديمة الهويّة التاريخيّة التي ملأت كل فراغ محليّ تركته المافيا. من هؤلاء بالطبع زعران الأحياء، وعصابات الأجانب (مهاجرون وغجر...) كما الشبّان الطليان الذين وجدوا أنفسهم خارج الأمل، ولا سيّما بعد أزمة 2008 الماليّة العالميّة التي كادت تدفع ببلادهم إلى الهاوية، وحوّلتها إلى رجل أوروبا المريض.
يتضاءل صخب الأحداث الكبرى في «سوبورّا» وعنفها والصّدمة التي تجلبها لفائدة عدد لا نهائيّ من اللحظات الصغيرة الساحرة على خلفيّة مشبعة بالألوان والصوت والخطايا: عندما تصبح أقوى الشخصيّات لوهلة كما الورقة في مهب الرّيح، الفكاهة السوداء التي تلقيها زوايا الكاميرا الساخرة دوماً من الاطمئنان، اللقاءات المشبوبة بالعاطفة بعد تمكّن الكآبة التامة، والولاء المدهش الذي يستعيد الإنسانية إلى علاقات تبدو سطحية وعابرة وعبثيّة.... هذا المزيج القابل للانفجار من لحظات العنف الوحشي والمشاعر الخام الكثيفة يمنح «سوبورّا» ــ رغم الثقوب العديدة في نسيج الحكاية الكليّة ــ مكاناً متفرّداً حقاً بين إنتاجات نتفليكس.

* «سوبورا» على نتفليكس

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا