الرباط | عباس صلادي (1950-1991) ذلك الفنان الشاب، الذي عاش مُعدَماً فقيراً في مدينة مراكش مع أخته الصغيرة الصامدة في وجه البرد والجوع والمطر على أبواب المساجد العريقة في ساحة جامع الفنا، لم يكن يعرف أنه سيغدو إحدى علامات التشكيل المغربي المعاصر. أعماله ستقفز في سوق المُضاربات المالية وتسخر من الفنّان وحياته البائسة إلى درجة أنّها ستكتسح سوق الفنّ العالمي وتُشكّل أغلى الأعمال، التي بيعت في تاريخ التشكيل المغربي. فرادة آسرة وغير «مفهومة»، أحاطت بأعمال عباس صلادي، فجعلته اليوم في طليعة الفنانين العرب، الذين لم يتلقوا تعليماً داخل مدارس الفنون الجميلة في المغرب. وإن كان قد درس الفلسفة، لكنّه لم يُكمل دراسته، بسبب نوبات الكآبة والقلق وارتجاج الذات، التي كانت تصيبه، فيضطر إلى العودة سريعاً إلى الرسم حتى تهدأ روحه وتنجلي أشباحه ويستعيد معنى الحياة أو بالأحرى يومياته مع كائناته الغريبة على سطح اللوحة.
عاش مُعدَماً في مدينة مراكش يصارع نوبات الكآبة والقلق وارتجاج الذات

رغم أنّ الكثير من النقاد يدرجون صلادي ضمن خانة الفنّ الفطري مع الشعيبية طلال وباية، كما هو الشأن مع المُفكّر عبد الكبير الخطيبي، الذي يُسميهم «المُتفرّدون في الفنّ»، فإنّ أعمال صلادي بالمقارنة مع الشعيبية طلال مُختلفة من حيث المُنطلقات الفنية والمُؤثّرات الجمالية. فأعمال الشعيبية طلال تدخل في اشتباك حميم مع ذاكرتها وطفولتها، لتنقل لنا تلك البراءة الآسرة، حيث اللون يُعطي إيقاعاً داخلياً للمُشاهد. لكنّ أعمال صلادي أكثر عنفاً وقبحاً وهجانة، فهو يبتعد عن الواقع وترسّباته وبكل ما يحمله من مآزق وقلاقل وشروخ وتصدّعات في مغرب الثمانينيات من خلال الإقامة في تخوم واقع مُتخيّل لا يعرفه الآخر. إنّه موجود فقط في ذاكرة صلادي ومُخيّلته... وجوه قبيحة/ بريئة، تتلذّذ بشواظ النار في عالم ميتافيزيقي. إنّ هذا الهروب الاضطراري، صوب التفكير في ميتافيزيقا الجنّة والنار، هو فعلٌ أنطولوجي، يتخذ من مفهوم الرؤية طريقاً للتحرّر من الواقع وميثولوجياته.
من هنا، تبرز أهميّة صلادي بالنظر إلى التجارب الفطرية الأخرى. ففي الوقت الذي كان فيه التشكيل المغربي غارقاً في مفاهيم الهوية والتراث والظل والنور والحروفية، بقي عباس صلادي، كأنّه لا ينتمي إلى الساحة التشكيليّة العربيّة، فأحلامه كانت تسبقه وتوقظ في مسامه فتنة السؤال. على هذا الأساس، فإنّ تجربته تُشكّل اليوم مدرسة قائمة داخل التشكيل المغربي، خاصّة أنّ المراجع الفنية، التي ينهل منها أفكاره/ كوابيسه، قد لا يعثر المرء على بعضها، إلاّ في القصّص المُصوَّرة والحكايات الشعبية، التي تشبّع بها في صغره داخل أحياء مراكش العتيقة. تلك العوالم الساحرة، يستعيد بعضها داخل لوحاته، ولكنّ بطريقة تجعلها عجائبية. وبقدر ما تُقيم في موروثها البصري والتاريخي، فإنّها تنزع في آن إلى غرائبية، تجد ذاتها في الواقع البديل، الذي يرنو إليه صلادي في مُخيّلته. إنّ أغلب التشكيليين المغاربة استندوا إلى مفاهيم فلسفية وتراثية أو سياقات تاريخيّة أو رؤى طوباوية أو قضايا سياسية واجتماعية، باستثناء عباس صلادي، الذي روى كوابيسه وأحلامه المُجهَضة على عتبة الوجود.
داخل معرضه الاستعادي الكبير، الذي يُنظّمه «مُتحف بنك المغرب المركزي» في الرباط حتى نهاية شهر حزيران (يونيو)، يعثر الجمهور على أعمال وتسجيلات وصور يتيمة ونادرة للتشكيلي عباس صلادي، الذي تجد الصحافة الثقافيّة العربيّة صعوبات جمّة في العثور على صوره. إذا استثنينا هذه المعارض الاستعادية، التي تُقيمها المُؤسّسات الفنية المغربيّة في الآونة الأخيرة، فإنّ المُشاهد والناقد والباحث والمُنقّب في تجربة صلادي، يكادون لا يعثرون على معلومات معرفيّة أو صور لبعض اللوحات وعناوينها الأصلية والتزوّد أكثر بحقائق بيوغرافية عن هذا الفنّان، باستثناء بعض الكتب التي صدرت عنه، لكنها تبقى يتيمة من حيث الكمّ والمنهج والمُنطلقات الفكرية.
ينتمي عباس صلادي إلى ما يُسمى داخل الأدبيّات التاريخيّة بـ «الظاهرة الفنية» التي عادة ما تقتحم الفنّ المعاصر بمصائرها ومعاييرها وشروطها وتفكيرها وأحلامها، بدون الاستناد إلى تعاليم/ معارف رسمية أكاديميّة، قد تُمليها بعض المدارس أو التيارات أو النظريات، فهم يظلون يحومون حول ذواتهم وفي تخوم أجسادهم لتطويع عوالمهم النفسية بصرياً غير مكترثين، بما تنضح به الساحة التشكيليّة، التي ينتمون إليها من رؤى ومفاهيم وأساليب. وهذا الأمر، لا يرتبط بأيّ نرجسية، قد يُسجّلها المرء على عباس صلادي وغيره، فالجُرح الذي ينخر أجساد هذه التجارب، يجعلها تعيش ألم العزلة وتمزّقات الوجود بكل نتوءاته. الفنّ في هذه الحالة، ليس خياراً جمالياً، وإنّما قدر أنطولوجي يستوطن كيان عباس صلادي ويجعله يُقاوم المرض من خلال اللون، الذي هو بمثابة وسيلة للتحرّر من ميثولوجيات الواقع. قسّم المعرض تجربة صلادي إلى مراحل عدة، ارتأى فيها القيّمون أنّ كل مرحلة تتميّز ببعض التحولات الفنية والجمالية، التي تجعلها بمثابة نهضة في أعمال صلادي وما يرتبط بها من مادة وألوان وطريقة تشكيل كائناته العجائبيّة.

«الهدية» (زيت على لوح ــــ 206 × 103 سنتم ـــ 1990/ 1992)

ولا ننسَ أنّ التقسيم، الذي يلجأ إليه البعض لرصد مظاهر الاختلاف والتباين في تجربة بعض الفنانين، يبقى مجرد عملية إجرائية، إذا لم يخضع في شروطه وتموضعاته لمفهوم التحقيب التاريخي وشروطه الإبيستمولوجية، التي تستند إلى وضع التجربة في سياقها التاريخي. آنذاك تتأتّى للباحث/ الناقد/ المُؤرّخ إمكانية رصد التجربة فنيّاً وجمالياً، رغم أنّ مفهوم «المرحلة» قد لا يكون دقيقاً ولا ناجعاً، لأنّ ما نعتقد أنّه ميسمٌ جمالي مُعيّن عند صلادي في مرحلة بعينها، قد يظهر مرّة أخرى إبان مرحلة لاحقة. ما يجعل الحكم الجمالي غير صحيح ولا دقيق. حتى عملية التحقيب، قد لا تنجح في استقراء بعض الظواهر الفنية مثل عباس صلادي، فهذا الرجل لا يرسم إلاّ ذاته، والسياق التاريخي قد لا يسعف الباحث في تفكيك أعماله المعروضة، إذا لم يستند إلى أدوات في القراءة، تستلهم مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية. والسبب يعود بالأساس إلى أنّ عباس صلادي، لا ينتمي إلى تيار فني أو أسلوب جمالي مُتعارف عليه في تاريخ الفنّ الغربي وتجلّياته داخل بعض التجارب العربيّة الرائدة. لكن في هذا الصدد، يستحضر المرء المُؤرّخ الفرنسي فرنان بروديل (1902 ــ 1985) وتجربته المُفيدة في استقراء الظواهر والسياقات ومدى تفاعل الأفراد داخلها وترتبط في الأساس بمفهوم «المدّة الطويلة» التي يرى بروديل، أنّها الطريقة الوحيدة القادرة على الارتباط بمسام وحميمية «الحدث» وتفكيكه إلى عناصر صغيرة، قبل جمعه من جديد، بحيث إنّ المُدّة القصيرة، لا تسعف الباحث في فهم الحدث خلال مرحلة مُعيّنة. وهذا الأمر ينطبق بالضبط على تجربة صلادي، التي لا يُمكن مُقاربتها بسياقات برانيّة عن العمل الفني في آنيته، إلاّ عبر فحص دقيق وكامل للتجربة في عموميتها وليس تشذيرها إلى مراحل جمالية. ونظراً إلى غياب مُؤرّخي الفنّ داخل البلاد العربيّة، فإنّ هذه المطبّات الفكرية والمنهجية، تتكاثر وتطفو على السطح حتى تُصبح بمثابة حقائق علمية، يستند إليها الناس في تأويلاتهم. إنّ سوء غياب التأريخ الفني العربي، لم يقف عند هذا الحد، بل جعل تجربة عباس صلادي، تظلّ في طليعة الأسماء التشكيليّة، التي تسلّل إليها قراصنة الأعمال الفنية.
استلهم القصص المُصوّرة والحكايات الشعبية، التي تشبّع بها في صغره داخل أحياء مراكش العتيقة

إذ قاموا بتزويرها بعد الانتصار الكاسح الذي حظيت به لوحة «الهدية» لصلادي داخل بعض المزادات العالمية. كأنّ تلك اللوحة البريئة والآسرة بجمالها، وهي تستعيد «الهدية» (مراحل من الطقوس في العرس المغربي) بشخصياتها الغرائبيّة، قد دقّت وقرعت أجراس الفنّ المعاصر ومُؤسّساته، وأعلنت من جديدة عن ميلاد فنّان كبير مثل عباس صلادي، الذي مات فقيراً وهو يئنّ من الصرع والجوع والجُرح، ليغدو مليونيراً بعد وفاته. كانت اللوحة بمثابة حدث كبير داخل الساحة الفنية العربيّة، فبدا عباس صلادي، الذي رحل عام 1991، يُطلّ علينا بمُخيّلته المُذهلة من حيث لا نراه ليسخر منا، ويُعيد طرح تجربته علينا، هو الذي يأبى الرحيل والاندثار داخل ذاكرة فنية غدت مشروخة ومتصدّعة من فرط الابتذال والتدوير.
تتميّز أعمال المعرض على اختلافها وتنوّعها، بتأثيرات فنية تنبع أساساً من الموروث البصري الشعبي والقصص والحكايات الشعبية التي تشبّع بها صلادي في صغره داخل الأحياء المراكشية وعاين سحرها كبلاغات أيقونية تنتمي إلى الواقع المغربي، بما يحبل به من عنف وألم وتمزّقات. فهو يُقدّم العالم، الذي يعيش فيه، باعتباره واقعاً حقيقياً يختلف عن الواقع الغرائبي الذي نعيش فيه. والغريب أنّ المُنقّب في الأرشيف البصري القديم للصور، قد لا يعثر على كائناتها بتلك الطريقة النابعة من مُخيّلة صلادي، إذ يمتزج فيها الغرائبي بالفانتاستيكي والمادي بالروحي والواقعي بالتاريخي. لكنّ هذا الأخير، لا يحضر كسياق تاريخي أو حتى كمرجع جمالي يُوجّه التجربة ويدلّها على آفاق تخييلية رحبة ومُغايرة، وإنّما يبزغ ويُفجّر نفسه كسرديات أنثروبولوجية تحكي وتسرد وتروي وتُفكّك وتُظهر وتبوح ولا تُماري مُتخيّلها الأنثروبولوجي. لكنّ السؤال الذي يبقى مطروحاً في ذهن كل من يُشاهد عن كثب أعمال صلادي: كيف يستطيع هذا الفنّان العيش في زمن سابق أو لاحق عن وجوده؟ كيف عمل صلادي على التعايش والتماهي مع أجساد كائناته الغريبة وصوّرها بتلك الهشاشة الساحرة، التي نبدو فيها «نحن» البشر أكثر شراسة منها؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا