في حزيران (يونيو) 1925، قال المخرج الفرنسي آبيل غانس (1889 – 1981) للفنيين والفنانين في «استوديو بيانكور» أثناء تصوير فيلم «نابليون» الصامت (1927): «عليكم أن تفهموا جيداً المعنى العميق لهذه الكلمات. من الضروري أن يسمح لنا هذا الفيلم بدخول معبد الفنون من باب التاريخ العملاق! يسكنني عذاب لا يوصف من فكرة أن إرادتي وهبة حياتي لا تساويان شيئاً إذا لم تعطوني، كلكم، تفانياً في كل ثانية... أصدقائي، كل شاشات الكون في انتظاركم! للجميع. المتعاونين على اختلاف أنواعهم. الجميع! أبطالاً، ثانويين، مصوّرين، مشغلين، رسامين، كهربائيين، ميكانيكيين، إليكم جميعاً، وخاصة الحشود الإضافية، المتواضعين (الكومبارس)، الذين سيتحملون العبء الثقيل لاستعادة روح أسلافهم، وإعطاء، بروح واحدة، وجه فرنسا الهائل بين عامَي 1792 و 1815. أسأل، بل أطلب النسيان التام لأي اعتبارات شخصية تافهة، وتفانياً مطلقاً. بهذه الطريقة فقط، ستخدمون القضية اللامعة لأجمل فنّ للمستقبل (السينما)، بفضل أروع دروس التاريخ».

انتهى التصوير عام 1927، وعُرض الفيلم بترقّب كبير في باريس خلال شهر آذار (مارس). أقيم العرض في الأوبرا ضمن احتفال خاص رافقته موسيقى حية (للأسف غير مكتملة اليوم ألّفها السويسري آرثر هونيغر، وقتها تم توزيع نسخ من كلمات لامارسيّيز على الجمهورـ للغناء بصوت واحد مع مشهد في الفصل الثاني من الفيلم، أطلق عليها غانس اسم «موسيقى النور» ما جعل الممثلين والجمهور يغنون كشخص واحد، كأنّهم استحالوا جزءاً من الفيلم). ثم أقيم عرض لاحق في «مسرح أبولو» وسُمّي بـ «النسخة النهائية» (تسع ساعات ونصف ساعة). حقّق كلا العرضين نجاحاً باهراً، حتى إنّه كان ضرورياً إضافة المزيد من العروض لاستيعاب التدفق الهائل للمشاهدين.
فيلم «نابليون» لا يقتصر على نسختين فقط؛ بل هناك 21 نسخة، منتجها المخرج نفسه غالباً، بما في ذلك ثلاثة إصدارات في الثلاثينيات مع حوارات ومشاهد صُوِّرت من جديد ودبلجة من قبل الممثلين أنفسهم. أُنتج الفيلم في الأصل من قبل شركة «لا سوسيتيه جينرال دو سينما»، التي كانت قصيرة العمر وأسهمت في إنتاج فيلمين فقط، من روائع تاريخ السينما العالمية والفرنسية الصامتة: «نابليون» و«آلام جان دارك» لكارل ثيودور درير. عُرض «نابليون» في ثماني مدن أوروبية عندما اشترته شركة «مترو غولدن ماير». لكن بعد عرضه في لندن، اقتُطع من مدته بشكل كبير، ولم يتم الاحتفاظ إلا بتسلسلات «بوليڤجن» (اسم أطلقه الناقد السنيمائي الفرنسي إميل فوبليرموز خصّيصاً لفيلم «نابليون»، والمعنى هو ثلاثية الشاشات التي تم تصميمها حصرياً لتصوير الفيلم وعرضه). لم يُستقبل الفيلم بحفاوة في الولايات المتحدة في وقت كانت فيه المحادثات قد بدأت بالظهور في السينما.

خضع الفيلم لواحدة من أطول عمليات الترميم وإعادة الاكتشاف في تاريخ الفن السابع. كل ذلك من خلال عمل بحثي مُضنٍ استمر خمسين عاماً أجراه الحائز جائزة الأوسكار، المؤرخ السينمائي والكاتب وصانع الأفلام البريطاني كيڤن براونلو (1938). بدأ الأخير العمل على ترميم الفيلم عام 1956 وكان عمره 18 عاماً، منطلقاً من النسختين الأساسيتين. رمّم براونلو نسخةً، لأنه وجد لاحقاً إما مشاهد غير موجودة في الترميمات السابقة أو نسخاً بصور ذات جودة أعلى. عام 1980، قدّم نسخته الكاملة للفيلم (خمس ساعات)، في «مهرجان تيلورايد السينمائي»، جنباً إلى جنب مع موسيقى أوركسترالية من تأليف كارل ديڤيس بحضور غانس نفسه الذي كان يبلغ تسعين عاماً. بعدها، قُدِّمت نسخة مصغّرة (4 ساعات) برعاية المخرج الأميركي فرانسيس فورد كوبولا، تُعرف اليوم بـ «نسخة كوبولا» احتوت على موسيقى تصويرية جديدة من تأليف كارمين والد كوبولا. قام براونلو لاحقاً بترميم ثانٍ عام 1983، وثالث ونهائي عام 2000، بالتعاون مع «معهد الفيلم البريطاني». وأخيراً، أعلنت نتفليكس بالتعاون مع «السينماتيك الفرنسية» أنها ستموّل عملية ترميم جديدة، أطلق عليها اسم «أبولو» وهي النسخة الأشمل والأطول منذ عرض الفيلم للمرة الأولى، وتستغرق قرابة سبع ساعات. ويفترض أن تكون النسخة المرمّمة جاهزة في الخامس من أيار (مايو) المقبل، في ذكرى مرور 200 عام على رحيل نابليون بونابرت.
كان الأكثر تجريبية وتطرفاً من حيث التقنيات، مفعماً بروح قومية وضعت نابليون في مصاف القدّيسين


لقد مرّ ما يقارب مئة عام على عرض أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما، وننتظر بفارغ الصبر النسخة المرمّمة الجديدة، ليتسنى للجيل الجديد مشاهدة هذه التحفة. نشهد في الفيلم فناً شاملاً حيث تغمرنا السينما بلغتها، بموارد وابتكارات جديدة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفن السابع، ونادراً ما نراها في السينما المعاصرة. غانس الذي أخرج وكتب السيناريو وأنتج ومثّل في الفيلم يُعتبر اليوم من أهم الشخصيات في السينما الفرنسية، ومن الأهم في المدرسة الانطباعية في بلاده. قبل تصوير الشريط، كان مقرراً أن تجتمع دول كثيرة لتشارك في الإنتاج (20% فرنسا، إسبانيا 7%، هولندا 4%، الدول الإسكندنافية 7%، أوروبا الوسطى 5%، وألمانيا وبريطانيا العظمى وأميركا اللاتينية وروسيا بالنسبة المتبقية). لكنّ الفقر الذي تسببت فيه الحرب العالمية الأولى، جعل الإنتاج فرنسياً بالكامل، ومنغّماً بالألوان مع استخدام شاشات ثلاث (واحدة أمامية واثنتان شبه جانبيتين) باللون الأحمر والأبيض والأزرق للعلم الفرنسي. قبل بدء التصوير، كان لا بدّ من تصنيع وتجميع 8000 بزّة، 4000 بندقية، 60 مدفعاً، 19000 كومبارس، 19 مليون فرنك فرنسي و450000 متر من شرائط الأفلام. عند بدء التصوير، تحدث آبيل في الإذاعة من برج إيڤل «ليبلّغ العالم كله أن تصوير أعظم فيلم في كل العصور قد انطلق». ألبير ديودونيه لعب دور نابليون في هذا الفيلم الذي غطّى الجزء الأول من حياته، من كورسيكا، وهروبه بقارب هشّ مستخدماً علماً ثلاثي الألوان كشراع، ووصوله إلى فرنسا، واتفاقية الجمهورية، وعهد الإرهاب، والثورة الفرنسية، وصعوده في الرتب العسكرية، وانتهاءً بغزوه المنتصر لإيطاليا عام 1797. اسم الفيلم الأصلي هو «نابليون كما يراه آبيل غانس» استخدم فيه غانس الذي كان يبلغ 38 عاماً تقنيات مبتكرة في الصناعة السينمائية: تصوير بكاميرا محمولة ثقيلة في وقت كانت فيه أغلبية الأفلام تُصوّر بكاميرا ثابتة، المونتاج السريع، اللقطات المقرّبة والواسعة، مشاهد وجهة النظر، ثلاث شاشات تعرض مشاهد مختلفة (بوليڤجن)، صورة فوق صورة، قطع المشاهد الحاد، لقطات الشاشة المنقسمة والفسيفساء...
«نابليون» هو السينما كما يجب أن تكون. كان الأكثر تجريبية، ولا يزال الأكثر تطرفاً من حيث التقنيات. مفعم بروح قومية تجعل نابليون قديساً تقريباً، والوسائل التي استخدمها غانس تجعلنا حرفياً عاجزين عن الكلام. منذ المشهد الأول، يخوض أطفال، في مدرسة عسكرية داخلية، حرباً بكرات الثلج، تستحيل معركةً بصريةً متطرفة تجعلنا جزءاً من الصراع. تتحرك الكاميرا بحرية، وتقترب من الأطفال بدون خوف، تطاردهم، وتدور بدون محور محدد، بينما نرى صوراً مركبة لنابليون الطفل ووجهه مليء بالماء والثلج. يقترن الوهم بالخيال، وتنتهي المعركة بحرب وسائد مليئة بالريش حيث تنقسم الشاشة إلى تسع صور منفصلة. الشريط مليء بالتعاويذ السينمائية، نابليون وسط عاصفة بحرية مع الكاميرا تتأرجح على إيقاع البحر الهائج وفي الوقت نفسه تكون الروح المعنوية عاصفة بالقدر نفسه. تظهر الكاميرا في الهواء، تطير ببساطة من هنا إلى هناك؛ إلى التسلسل النهائي في إيطاليا.


آبيل غانس رأى أن السينما «أعظم وسيط للعقل البشري» والفيلم الرائع «مثل جسر الأحلام يمتد من عصر إلى آخر». هو المخرج الطموح والمصاب بجنون العظمة. في زمنه، كانت السينما مجالاً يجب استكشافه، شكلاً فنياً جديداً لا يزال البحث عنه مستمراً. وغانس من رواد هذا العصر. صنع الكثير ولكنه اشتهر بثلاثة أفلام هي: «أتهم» (1919)، «العجلة» (1923) و«نابليون». بعد عرض «نابليون»، اتُّهم غانس بنظرته غير النقدية إلى نابليون، وبأنه خان فيلمه «أتّهم» المناهض للحرب، هو الذي سُرِّح من الجيش خلال الحرب العالمية الأولى، وفكّر في أصدقائه الذين تركهم وراءه في ساحات القتال. «لقد كان الوقت الذي مات فيه معظم أصدقائي وزملائي وأقراني؛ خطرت لي فكرة بينما كنت أسير في «شارع نويل»: وجودي في هذا العالم لا معنى له على الإطلاق إلا إذا حاولت محاربة هذا الموت من خلال صنع فيلم عنه». هكذا، باشر في صنع «أتهم» وسمح للجنود الفرنسيين بالتمثيل في الفيلم: جيش الموتى، الأشباح، وهو من أوائل الأفلام المناهضة للحرب في تاريخ السينما.
كانت فكرة آبيل غانس الأصلية إنتاج ستة أفلام عن سيرة نابليون، لكنه لم يكن يتمتع بالإمكانات المالية لهذا المشروع الطموح. يتساءل المرء ما كان يمكن أن يكون عليه فيلم من ثلاثين إلى أربعين ساعة عن نابليون: بطولة كاملة؟ ملحمة وطنية تخنق نفسها أم تُنشئ صدوعاً نفسية في شخصية البطل من خلال الطول فقط؟ وهكذا، فالرجل الذي حلم بتوسيع حدود السينما إلى ما هو أبعد من الخيال، عوقب بشدة من قبل الصناعة والجمهور. إنّه أشبه بروميثيوس الذي سرق شعلة النار وعوقب من الآلهة. مع ذلك، واصل غانس إنتاج الأفلام، عاد مراراً وتكراراً إلى نابليون، الذي أسيء فهمه. في الأيام الأخيرة من حياة غانس، كان يتجوّل في الحي اللاتيني الذي يسكنه المهمّشون. هناك بقي يتحدث بشغف عن السينما، ربما هم وحدهم الذين استطاعوا فهمه وفهم أعماله. الثمن الذي دفعه «فيكتور أوغو الشاشة» لدخول معبد الفنون، كان باهظاً ومكلفاً، لكنّه وضع بصمته الخالدة هناك، واليوم ننتظر «نابليون» من جديد.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا