إلى جانب نضالها الثوري في حركات الطبقة العاملة في بولندا ولاحقاً في ألمانيا، كتبت روزا لوكسمبورغ (1871 ـــ1919) نصوصاً كثيرة في تحليل الرأسمالية والتنظير السياسي والتاريخي، وخاضت جدالات صاخبة مع أقطاب اليسار الأوروبي وفي «الأمميّة الثانية». تباعدت مواقفها مع فلاديمير لينين في مواضع عدة، فعارضت تقدّم البلاشفة لإقامة ديكتاتوريّة العمّال في روسيا (1917)، وانتقدت تأييده حق تقرير مصير موطنها الأصلي بولندا. بعد تغييبها اغتيالاً، أيقنتها الاتجاهات البورجوازيّة في الغرب وحوّلتها إلى ربّة للديمقراطيّة، ووظّفت اسمها كغطاء لجمعيّة «إن. جي. أو» تعمل لتمرير مخطّطات استخباراتيّة مشبوهة، لا غراماً بنضالها الذي لم يلن، لكن نكاية بلينين، القائد الذي تجرّأ على تحويل النظريّة الماركسيّة إلى مشروع حقيقي على الأرض
«الاشتراكية، أو البربرية»
(روزا لوكسمبورغ)

كانت روزا لوكسمبورغ التي وُلدت لعائلة يهوديّة في الخامس من آذار (مارس) قبل 150 عاماً شخصيّة ماركسيّة ثوريّة بارزة في حراكات الطبقة العاملة في بولندا بداية، ثم في ألمانيا، حيث شاركت في قيادة العمّال الألمان الثوريين خلال ثورة نوفمبر 1918 وتأسيسهم جمهورية ألمانيا الاشتراكية الحرة قبل أن تقمعهم السلطات بالعنف الدّموي، لتؤسس ورفيقها كارل ليبكنخت تالياً الحزب الشيوعي الألماني وتحضر مؤتمره الافتتاحي قبل أسبوعين فقط من إلقاء القبض عليهما فيُعذبان، ويتم اغتيالهما بوحشيّة بالغة في كانون الثاني (يناير) 1919. كانت تلك ضربة قاصمة لا للعمال في ألمانيا فحسب، بل عبر أوروبا، ومهّدت لصعود النازيّة وويلات الحرب العالمية الثانية. والأهم أنها خسارة استراتيجيّة أطاحت بحلم أوروبا اشتراكية تمتد من سهوب روسيا إلى القنال الإنكليزيّ، وفرضت على دولة عمّال روسيا الاكتفاء ببناء مشروع اشتراكي في دولة واحدة، بدلاً من أن تكون نواة نظام معولم نقيض للرأسماليّة البورجوازيّة ينجز مهمّة تأسيس حياة أفضل للبشر.

إلى جانب نضالاتها المشهودة في التّنظيم والتّوجيه الحزبيّ، كانت روزا خطيبة مفوّهة ومفكرة مثقفة من طراز رفيع. تركت نصوصاً كثيرة في تحليل التراكم الرأسماليّ والتنظير السياسي والتاريخي (جُمع معظمها بعد غيابها ونُشر بالألمانيّة والإنكليزيّة ولغات عديدة بطبعات أنيقة). واشتهرت بجدالاتها الصاخبة في «الأمميّة الثانية» مع أقطاب اليسار الأوروبيّ، وكذلك بنقدها اللاذع لمهادنات اليسار الألماني وسياسات الجناح اليمينيّ في حزب الاشتراكيين الديمقراطيين المؤيدة للنزعة العسكريّة للدولة الألمانيّة وانخراطها المشين في الحرب العالمية الأولى (1914 -1918). تباعدت مواقفها تحديداً مع فلاديمير لينين زعيم البلاشفة الرّوس في مواضع عدة، سيّما بشأن دور الحزب الثوريّ في قيادة التحوّل الاشتراكي، فعارضت تقدّم البلاشفة لإقامة ديكتاتوريّة العمّال في روسيا (1917). وانتقدت كذلك تأييده حق تقرير مصير موطنها الأصلي بولندا حتى قال لاحقون لهما بأن روزا وكأنها تروتسكي قبل أن يكون تروتسكي نفسه في خلافه الدائم مع ستالين. لكنّ تلك التقاطعات النظريّة الحادة بين روزا ولينين بقيت دائماً في إطار الرفاقيّة النضاليّة والتضامن الأممي للبروليتاريا، ولم تفسد ذرّة من الودّ والاحترام المتبادليْن بينهما، حتى إن لينين قال فيها بعدما علم باستشهادها أبلغ ما وصلنا من رثاء.
كانت روزا قد كتبت في نص شهير لها بشأن التراكم الرأسمالي (نُشر عام 1913) عارضت فيه تصوّر ماركس لكيفيّة تحقق فائض القيمة في المجتمعات ما قبل الرأسماليّة، فذهبت إلى القول بأن الممارسة الاستعماريّة في المناطق والبلاد المتخلّفة تقوم بالدور نفسه الذي يقوم به القطاع الصناعي في الاقتصادات الرأسماليّة. لم تفت تلك الهفوة لينين الذي ما لبث أن كتب إلى جريدة ألمانيّة نشرت نقداً للكتاب: «يسعدني للغاية أن أرى أنه في ما يتعلق بالنقاط الرئيسية، توصل كاتب النقد إلى ذات الاستنتاجات التي توصلت إليها في الجدل مع توغون - برنوفسكي وفولكستوملر قبل 14 عاماً»، واصفاً تنظير لوكسمبورغ بـ«الانتقائي». وكتب لاحقاً في رسالة: «قرأت كتاب روزا الجديد عن تراكم رأس المال. لقد دخلت الرفيقة في فوضى صادم» وعبّر عن رضاه عن مجمل الانتقادات التي وُجهت إليها من مفكرين معاصرين لهما.
لاحقاً تجادلا أيضاً بشأن معارضتها حق الشعوب في تقرير المصير (أي حق الانفصال عن الدول الإمبراطوريّة التي سادت في القرن التاسع عشر)، واعتراضها في مقالة لها على فكرة كاوتسكي بأن «الدولة الوطنية هي الشكل الأكثر ملاءمة للتطوّر الرأسمالي في الظروف الرّاهنة». وأزعج لينين تنديدها بدعم البلاشفة في برنامجهم السياسي لطلب استقلال بولندا عن روسيا، فيما كان لينين يرى أنّه - في غياب المركزيّة الاشتراكية – لا بدّ من تأييد نضال الشعوب الساعيّة للتحرر الوطني، رافضاً سذاجة الوقوع في تأييد البورجوازيّات المتوحّشة في استغلالها للشعوب المضطهدة.
أبدت تعاطفها مع المينشفيك، وانتقدت «المركزيّة المفرطة» التي يدعو إليها زعيم البلاشفة لينين


لكن الخلاف الأساسي بين القائدين وقع بعدما انقسم الشيوعيون الروس إلى «أغلبية» (البلاشفة) و«أقلية معارضة» (المينشفيك)، إذ أبدت روزا تعاطفها مع المينشفيك، وانتقدت «المركزيّة المفرطة» التي يدعو إليها زعيم البلاشفة لينين، فكتب الأخير في الرد عليها: إن الجدل في الحزب الروسي لم يكن يوماً بشأن درجة المركزيّة بقدر ما «كان أساساً حول إذا ما كان لتكوين الأجهزة المركزيّة أن يعكس اتجاه أغلبية مؤتمر الحزب. هل تعتبر الرفيقة أنه من الطبيعي أن تهيمن الأقلية في مؤتمر الحزب على المؤسسات المركزية؟ هل يمكنك تخيل مثل هذا الأمر؟ هل رأيت ذلك من قبل في أي حزب على الإطلاق؟». واتهمها بـ «اتخاذ مواقف بدون اطّلاع كاف على الواقع داخل الحزب» الذي كان يعاني بالفعل من تناقض حاد بين الشيوعيين البروليتاريين وأقليّة البورجوازيين والمثقفين، و«تجاهل الحقائق والانغماس في التجريد، وبالتالي تشويه الممارسة الماركسيّة». ولما حاول المينشفيك تصفية الحزب لاحقاً، أيّدتهم روزا ملقية باللوم على المجموعة اللينينية «كونها الأكثر نشاطاً في إثارة الانقسام». وقد اختلف لينين حينها اختلافاً حاداً مع هذا الموقف، وكرّر أن ما يجري في روسيا لا يشبه فوضى الصراع بين الفصائل، بل هو صراع ضد مجموعة مثقفين تريد تصفية الحزب والتّخلي عن برنامجه، معتبراً أنه من خلال هذا النضال بالذات، يمكن بناء حزب ديمقراطي اشتراكي حقيقي.
وقد كانت لروزا كذلك مخاوف وتحفظات على عملية الاستيلاء على السلطة في روسيا عام 1917. إذ شعرت وقتها بأنها عمليّة «مفتقدة للديمقراطية»، ونتيجة لـ «النهج اللينيني المركزي المتعنّت»، معتبرة أنّ ذلك «سيخنق مبادرة العمال من الأسفل، وستنجم عنه تشوّهات بيروقراطية». وترد هذه الآراء في مخطوطاتها التي كُتبت في السجن (1918). مع ذلك، فقد شهدت كلارا زيتكين، بأن روزا بعد إطلاقها من السجن في كانون الأول (ديسمبر) 1918، أدركت أن وجهات نظرها كانت غير دقيقة استندت فيها إلى معلومات غير كافية، وأنّها بالفعل شرعت في تصحيح تلك الانتقادات قبل أن تُخطف وتُقتل.
وفي عام 1922 عندما خطّط بول ليفي، وهو ألماني مينشفيكي التوجهات لإعادة نشر كتابات روزا لوكسمبورغ حيث اختلفت مع لينين، كتب القائد يقول: «لقد أخطأت روزا لوكسمبورغ بشأن مسألة استقلال بولندا، وأخطأت عام 1903 في تقييمها للمينشفيك، وأخطأت في نظرية تراكم رأس المال، ولكم كانت مخطئة في يوليو 1914 عندما أيّدت الداعين لتصفية الحزب، وكانت مخطئة أيضاً لناحية ما كتبته عنا وقت السجن عام 1918. لكن مع أخطائها، كانت روزا وستبقى لنا دائماً نسراً محلقاً، ولن يعتز الشيوعيون في جميع أنحاء العالم بذكراها فحسب، بل إن سيرتها الذاتية وأعمالها الكاملة ستكون بمثابة أدوات ثمينة لتدريب أجيال عديدة من الشيوعيين في جميع أنحاء العالم».
لكن بعد عقود من تغييب روزا اغتيالاً على يد البورجوازيّة الألمانيّة التي تعلّمت الدرس من الثورة الروسيّة عام 1917 وأرادت بقتلها ورفيقها ليبكنخت محق طبقة القيادات الثوريّة قبل نجاحها في تحقيق نصر مماثل ضد النظام الألمانيّ، تحاول الطبقة المجرمة ذاتها التي خنعت للهيمنة الأميركيّة بعد 1945 - بيسارها المزيّف – أن تجعل من ضحيتها السابقة أيقونة نضال نسوي وربّة للديمقراطيّة. لم تخجل من توظيف اسمها كغطاء لجمعيّة مدنيّة (إن جي أو) تعمل بين ألمانيا والولايات المتحدة وحول العالم لتمرير مخططات استخباراتيّة مشبوهة، لا غراماً بروزا وبنضالها العنيد ضدّهم (وهم الذين قتلوها بأعقاب البنادق وشوّهوا جثتها وألقوها في النهر)، لكن نكاية بلينين القائد الذي تجرّأ على تحويل النظريّة الماركسيّة إلى مشروع حقيقيّ على الأرض، في ديكتاتوريّة عمّاليّة للمرة الأولى في التّاريخ، وبالتبعيّة حرباً على الفكر اللينيني. ونحن نتفهّم موقفهم، وندرك دوافعهم، ونتعاطف مع مخاوفهم، وسنظلّ نحبّ روزا - نسرنا المحلّق - أكثر منهم.




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا