منذ السنوات الأولى لمشواره الفني، لم يكن صلاح صولي (1962 ـ بيروت) يجد نفسه منسجماً مع تلك التركة الثقيلة من المدارس والمناهج التي تفرض نفسها على أي فنان شاب. رفضُه للمنجز البصري قاده إلى صدامات تعبيرية كثيرة. هجر الكلاسيكيات الرائجة. وذهبت رهاناته الأولى إلى رفض إعادة إنتاج الواقع، ما أعطى لأعماله فضاءً حراً وواسعاً لا ينفصل عن الواقع، بل يراه من زوايا مختلفة ومغايرة. معرضه الاستعادي الذي تحتضنه «غاليري أجيال» (مجموعة ه. حايك) يحمل إشارات واضحة إلى فنان قادر على التجدد، حوّل العمل الفني مساحة اختبارية رديفة للحياة. مفاهيم صولي تهدف إلى إعادة ابتكار نمط جديد في التفكير. أعماله ذات الوسائط والأساليب غير المستقرة، اتجهت إلى محاولات دائمة لسبر المجتمع والإضاءة على تعقيدات مخيفة ومستعصية.
تخرّج من «معهد الفنون الجميلة» في بيروت عام 1984، وتابع دراسته في ألمانيا، عمّق وعيه بالتجربة النظرية في مجال التشكيل، ما مكنه من الانفتاح على تجارب عالمية عدة. عرضت تجهيزاته في مختلف أنحاء أوروبا، ونال العديد من الجوائز في ألمانيا وفي «بينالي الشارقة الثالث».
من خلال سياق بصري يربط الماضي والحاضر، بَنى مشاريعه البصرية التي عرّى فيها بنية التاريخ المكرّس ليتسلل عبر فتحات وهمية تتيحها أعماله في مفهوم الزمن، إلى مستويات جديدة من الوعي، كأنه بذلك يريد تشكيل ذاكرة جديدة للعالم. ستستوقفنا في «أجيال» مختارات من مراحل زمنية متفاوتة من مسيرته. في عرض «انتهاء الوقت ـ تحرير العيون» (1992ـ 1994) صور محبوسة في صناديق مضيئة لأشخاص فُقدوا خلال الحرب الأهلية اللبنانية. نظرات مُضاءة بوهج داخلي عميق ومؤثر تضعنا أمام حقيقة أنّ 17000 شخص ما زالوا مجهولي المصير حتى اليوم. كأنّ صولي يرصد الذاكرة السياسيّة في مجتمع تبدو ذاكرته قصيرة ومصابة بالعطب.
صور محبوسة في صناديق مضيئة لمفقودين خلال الحرب الأهلية اللبنانية

لا يحيلنا التأمّل في الأعمال على خلاصات قطعيّة، بقدر ما يضعنا أمام المزيد من الأسئلة والقناعات المركبة. هي لا تدّعي الحميمية، إنها منجزة بهدوء شديد، ومشحونة بأفكار وأدوات تعبيرية تنتمي إلى العصر الراهن. هنا، يصير بمقدور العمل الفني أن يكون مادة توثيقية، نجد نموذجاً من «جدار الصوت» (1996) حيث صور الطائرات على صفائح «بلكسي»، تذكرنا باختراق الطائرات الإسرائيلية لجدار الصوت، وقد نثر الفنان تحتها زجاجاً مهشّماً كإحالة لمخلّفات الحرب وقدرتها الملموسة على الانتهاك.
هناك اشتغال دائم على العلاقة مع المكان ضمن مفهومي الحضور والغياب. اختار صولي فضاء «دير الفرنسيسكان» وسط برلين الذي يبلغ عمره ثمانية قرون، وعلَّق عليه سترات رماديّة وسوداء تذكّر بلوحة Golconde لرينيه ماغريت واضعاً المتلقي أمام صورة مجازية قاسية للفقد والعنف، تحيلنا ذهنياً على ظرف افتراضي يصير فيه المكان فاقداً دوره الإنساني والتاريخي. تقاسم التشكيلي اللبناني المكان مع زميلته الألمانيّة سوزانا روأوف، ليخرجا بتجهيز CON-Fusion، فُردت سجادة حمراء، في ممرّ يقود إلى قلب المكان وفوقها علّق صولي سترات حِداد، أو كما وصفها رالف هارتمان مدير «غاليري نورد» إنها «بقع سوداء تلطّخ التاريخ الذي لم يترك مكاناً لمعاناة الفرد ومصيره اللذين فرضا عليه الحرب والعنف». سنجد في المعرض الحالي صوراً تذكر بهذا التجهيز الذي استغرق إعداده 8 أشهر في ديرٍ قوطيّ من دون سقف، بقي شاهداً على الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية.
في لحظات كثيرة، تبدو أعمال صولي قاسية وسلبية: الاضطراب، الحروب، العدائية، جميعها عناصر أساسية في مشاريعه. يعيد صياغة مفرداتها وفق منظور تركيبي أدائي مباشر ومربك. تبدو السخرية أحياناً وسيلة ناجعة لتمرير الأفكار والمواقف. وقد لفت الانتباه إلى تجاربه التي تميل إلى التجريب والبحث في الافتراضات والاقتراحات التي تظهر في أعماله المفاهيمية من بينها صورُ كتبٍ مفروشة على طول الطريق تدوسها السيارات، وكتب أخرى تعطي انطباعاً للمشاهد بأنّها تدعم أعمدة «سينما الحمراء».
اشتغال دائم على العلاقة مع المكان ضمن مفهومي الحضور والغياب

التجهيزات تخلق حالة من الالتباس وإثارة فضول المتلقي الذي يجد نفسه أمام ثلاثة كتب «دراسات طبية» مفتوحة، رسمَ عليها صولي أعضاءً بشرية وغرس بداخلها قطعاً من الزجاج. الورق المشغول برهافة الأكواريل يتنافر مع حِدة الشظايا الزجاجية المغروسة في الكتب ليلفت الانتباه إلى مكانة الكتاب وإشكالية الرقابة الفكرية التي تعاني منها بلداننا العربية. ذلك أنّ صولي كما صرّح لـ «الأخبار» لا يحبذ معالجة الأفكار بطريقة انفعالية صاخبة، فـ «المباشرة والفجاجة تفقد العمل الفني الكثير».
ويبقى «كونسرت للغابة» (2009) عملاً مميزاً، يحتفي بالطبيعة وينحو إلى التوعية حول المشاكل البيئية. يستعين الفنان بخيوط الكتّان ليعلّق فروع أشجار صغيرة لوّنها بالأحمر (حوالى 500) إلى شجرة في الهواء الطلق، تسقط الأغصان على المستوى نفسه حول جذع الشجرة، ما يجعلها ترصد كل حركة للريح وتحولها إيقاعاً موسيقياً. يعيد هذا العمل الاحتفالي تشكيل pier and ocean لبيت موندريان ويبث فيه الحياة عبر تقنيات وتكوينات جديدة. نجد في المعرض أيضاً أعمالاً أخرى استوحاها صولي من الفنان هانز آرب، ورينيه ماغريت، وهانز هولباين من بينها لوحات تصوّر ملامح حيوانات تَظهر مُجزّأة. لعبة الظاهر والمتخفي التي تبدو دوماً حمّالة أوجه ومعان متضاربة، يُوظّفها بطرق شتى في بنية أعمال «الصورة المخبأة» (معرض قدّمه عام 2012).
بهدوء شديد، يروّض صولي تاريخاً من المواجع التي سمع بها أو اختبرها شخصياً، وينجز منها فرجة بصريةً، مشحونة بهموم إنسانية، ونقد اجتماعي يتشابك مع الكثير من القيم السائدة.



«صلاح صولي: معرض استعادي»: حتى 18 نيسان (أبريل) ـ «غاليري أجيال»، الحمرا ـ للاستعلام: 01/345213