تأكيداً على سرمدية لبنان، وإيماناً بدوره الإنساني، واعتزازاً بحضوريَّته الفكرية، ومكانته في الإبداعات الكتابية، شعراً وأدباً وإلهامات، يَجهد الأستاذ عاطف مرعي باندفاعية وطنية عالية وحسٍّ أدبي رفيع مَشفوعاً بذائقة شعرية رَهَّافَةٍ مَوروثةٍ عن والده قيصر (الشاعر الحيطوري)، لِجَمْعِ وتصنيفِ أَعتَقِ النُّبوءاتِ وأَرَقِّ الكِتاباتِ و أجْمَلِ القَوْلاتِ عن لبنانَ، الوطنِ المسكون فيه خُلْقاً وطَبْعاً وسلوكاً، فيُقدِّمها قصائدَ للبنان عن لبنان، بأسلوبٍ انتقائي دقيق، وظَّفه لخدمةِ هذه «المختارات الشعرية» التي تَغَنَّت بلبنان وجمالاته وطبيعته وفرادته بين المُجتمعاتِ المُحيطة، ورتَّبها أنطولوجيا شعرية بالفصحى والمحكية، لأكثر من مئةٍ وخمسةَ عشرَ شاعراً وشاعرة، انتظَمَتْ أربعَةَ فصولٍ في 544 صفحة، مُدَعَّمة بستَةٍ وسبعين مصدراً ومرجِعاً علمياً، ومرتكزاً إلى أسانيدَ موثوقة جعلت من مؤلفهِ «لبنان الأنبياء والشعراء» ذاكرةً للدواوين وثَبتاً للأشعار ومَرصَداً للقصائد التي ذُكِرَ فيها لبنان، بما جعل هذا الكتاب أشبه «بديوان الدواوين» ومُلَخَّصاً لأجمل ما كُتِبَ وقيلَ في لبنان، منذ العهد القديم، مع الأنبياء يشوع بن سيراخ وحزقيال وإرميا والنبي هوشع، وما جاء حول جمالات هذا الجبل وعظمة مجده وشموخ أرزه في أسفار نشيد الأناشيد والمزامير والملوكِ والأخبار.لقد حرصَ عاطف مرعي أَنْ يُعيدَ الاهتمامَ بلبنان عن طريق تجميعِ باقات الجمالات الشعرية، والتركيز على منارات الضوء وعلاماتِ الهداية، رغْمَ الأجواءِ الرَّماديةِ التي تَحُوطُ بالوضع الاستثنائي والشاذ الذي يمرُّ فيه وطنُ الأرزِ وأرضُ المَجْد، وعملَ لأن يجمع وينتقي ويختار أجملَ الأجمل ويقدِّمها غِذاءً فكرياً وأدبياً للذاكرة اللبنانية في الوطن والمهجر، كأجملِ ما يكون من توثيقاتٍ شعرية وتَفَاخُرٍ بالانتماء الى وطنٍ جاء ذكره في العهد القديم أكثرَ من سِتٍّ وسبعين مرَّة، ولَمَّا يَزَلْ يُذكَرُ باعتِزازٍ وتوصيفاتٍ رقيقة في أشعار المحدثين والمعاصرين من أهل الفكرِ وذَوَّاقةِ الأدب وفَنَّاني التعبير الشعري النقي.
وما زاد من جمالية الانتقاءِ الناجح للأشعار والقصائد، حُسنُ تقسيم الكتاب إلى أربعة أجزاء مُتكاملة من حيث الترتيب المنهجي، الذي تَدرَّجَ من مقدمة ووقفات مُسهبةٍ مع لبنانَ الرسالة، وملتقى الأديان والحضارات والثقافات، مع تركيزٍ على مفهوم جديد أراده عاطف مرعي ليؤكّد فيه على أَن «لبنان قداسة موصولة بقداسة»، مُوحِياً بما يكتنزُهُ هذا الوطنُ الفردوسِيُّ من تمايزاتٍ وخصوصيات حَبَاها إيَّاها الرَّبُ، وبما يعنيه دورُ لبنان من مساحةٍ للتلاقي والتَّكامُلِ بين الحضارات والثقافات والأديان. وما زاد على الفائدة العلمية للكتاب، إيرادُ الباحث ثَبْتاً توراتياً لأقوال الأنبياء حول لبنانَ، ثم تصنيفُه لشعراء الفصحى والتفعيلة الحُرَّة وأبرز قصائدهم التي ذكروا فيها لبنان ومواصفاته، خاتماً بِمَسْرَدٍ مُوَسَّعٍ لشعراء المحكية، ما يجعل هذا الكتاب أشبه «بدائرة معارف مُصغَّرة» للشعراء وأقوالهم بلبنان ومواصفاته الجمالية ومعنى الاشتِقَاقاتِ اللغوية لِجَذْرِ كلمة «لبنان» ومعانيها.
هذا الأثر الجامع للشعراء اللبنانيين والعرب على مدى قرونٍ وحتى اليوم، يُشكِّلُ مدخلاً واسعاً لإعادة رصد وحفظ التراث اللبناني المكتوب والشفهي وتنظيم استثمار هذا الجهد في سبيل بناء ذاكرة وطنية وقومية، يعتزُّ بها لبنان المقيم ويفخر بها لبنان الانتشار!

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا