I ــــ من المكحول، إلى شارع عبد العزيز
المكحول. من شرفة منزلي، أتابع مذهولاً، الهستيريا المتمادية، في الإنارة الملوَّنة، لكنيسة نياح السيدة، قبالتي. جدران الكنيسة مكسوَّة بالحجر الرمليّ العتيق. أقواس منتظمة تزنّر الكنيسة ورواقٌ. في محور الرواق غرباً، قوس مهيب، يوصل إلى باب الكنيسة. الساحة أمامه فسيحة. في طرفها، شجرتان: فيكوس شُذّبت بعناية، لتزهو بشكلها الكروي. جارتها الصنوبرية، بأغصانها المنتظمة، نقيضٌ متناغم. في الأفق المقبرة. شجر السرو فيها، مرتفعٌ، اختبأ خلفه برج الساعة، في الجامعة الأميركية. أما الجدار الفاصل، فهو كما عرفناه، شلاّلٌ ونافورة. زنَّرت البروجيكتورات الكنيسة من كل الجهات، وقد زرعت على سطح الرواق، وأمام أعمدته. ومع الصباح، تبدأ هستيريا الإنارة الملوّنة.

جدران الكنيسة حمـراء، أقواس الرواق خضـراء، قبة الجرس، ليلكية، سقف الكنيسة أخضر. في الشجرتين، الزينة، والرموز، كلها مضاءةٌ ساطعة. ويستمر هذا الهذيان ليلَ نهارَ. ربما كانت، هذه الهستيريا، في إنارة كنيسة نياح السيدة في المكحول، وجهاً لعملة واحدة، كان وجهها الآخر، الهستيريا التي رافقت عيدَي الميلاد ورأس السنة. احتفالات صاخبة في المطاعم، وفي الملاهي الليلية، وفي البيوت. جموع سهرت حتى الفجر. رقصوا فوق الطاولات. جنون بلا ضوابط، في أجواء الجائحة، والأحوال الاقتصادية الراهنة، ظهر واضحاً في أرقام المصابين المعلنة بالآلاف. إنه «الجحيم»، كما عنونت جريدة «الأخبار»، في عددها الصادر في 11/1/2021. نزولاً، نحو شارع عبد العزيز، ما إن تسير نحو شارع عبد العزيز، حتى تقفز إلى ذاكرتك الصورة، مساء ذلك اليوم المشؤوم، 4 آب 2020. عمود الدخان الأحمر، الذي اخترق السماء عقب الانفجار. كل ناس الجوار، في الشارع، فوق الزجاج، ركام غطَّى الأمكنة. جموع غفيرة، تبحث تائهة، عن مصدر العمود الأحمر المتصاعد. تعدَّت الجموع مستشفى الجامعة الأميركية. انتشرت في الزواريب. عادت بخيبة كبيرة. المصدر ليس في الجوار.

أبراج بنك البحر المتوسط


نزقُ ناطحات السماء

تستيقظ. تطرد الكابوس من ذاكرتك. تُكمِلُ سيرك. التوتُّر الذي أحدثه المبنى الضخم، قبالة الكنيسة، يستمر قامعاً تواضع الشارع، وهدوءه. البرج الكارثي منتصبٌ، عدائيٌّ. غلافه الأسود ينشر العتمة. وشرفاته الحمراء المتراقصة، تثير الضحك. أما الواجهة الجنوبية لطرف الشارع، فهي، متجانسة، بتيبولوجية واجهاتها. إنها تُروي تاريخ شارع المكحول، المتواضع الهانئ. ثم فرن الكعكة والمنقوشة. والحلبي في خبزه وزبدته، وقد أصرَّ أن يكتبها بالإنكليزية أيضاً (Bread & Butter) انسجاماً مع ثقافة الأمكنة، كما يعتقد. شارع عبد العزيز. ينتهي شارع المكحول، مع قاعدة البرج الأسود. تختلف البيئة المبنية الحاضنة كلياً، منذ أن تصل إلى ما يسمَّى المبنى الأزرق عن يسارك، ومستشفى خوري عن يمينك. يسيطر على المورفولوجية المدينية هنا، النسيج المبني، الخاصُّ بمستشفى الجامعة الأميركية. أمامك جدار مرتفع، يلتف بموازاة سور الجامعة الأميركية العتيق. الجدار أصفر باهت، غطّته طبقات الإعلانات الورقية، وقد نُزعت الملصقات، فبدت كأنها لوحة تجريدية اعتمدت اللصق أسلوباً. وراء الجدار السور، ضمّة من أشجار الفيكوس الدهرية، تمدَّدت، فظلّلت الشارع، واختبأت خلفها مكتبة كليَّة الطب في الجامعة الأميركية. مساء الثلاثاء في 4 آب 2020، ضرب عصف الانفجار، حاويات النفايات هناك. انقلبت. تدحرجت. ملأت النفايات الأمكنة. اختلطت بركام الزجاج المحطّم.
يلفتك اليوم، بعد خمسة أشهر، مباني مستشفى الجامعة الأميركية الجديدة، المتمدّدة حتى مبنى بنك الموارد. المباني رُمّمت. واستُحدِث عند أقدامها، طريق خاص يوصل إلى المرآب، في الطوابق السفلية. تستطيع اليوم، أن تمحو من ذاكرتك، صورة الجموع المرعوبة، تبحث عن مكان الانفجار، وعن مصدر عمود الدخان الأحمر الخانق. تستطيع ربما، أن تمحو من ذاكرتك، المشهد المروّع، أمّا أنا، ساكن الأمكنة هناك، فلا أستطيع.

II ـــ من التقاطع في شارع بلس، إلى القنطاري، عبر شارع كليمنصو.
البدايات، أو بوَّابة شارع كليمنصو. نلتف شرقاً. بمحاذاة الجدار الأصم. إنها بداية المسار الطويل. نُظّف الجدارُ. الجدار أصفر شاحب. ينحدر نحو بوابة شارع كليمنصو. إنه مرآبٌ لسيَّارات العاملين في كلية الطب، وفي مستشفى الجامعة الأميركية. المدخل عريض، لا يدخله إلاَّ المزوَّد ببطاقة، تُوجَّه إلى جهازٍ متدلٍّ من السقف. عندها يرتفع الحاجز وتدخل السيارة. الحارس في مكتبه، يسهرُ على حسن أداء الجهاز.
شارع كليمنصو، والبوابـة، لا جديـد هنـا. بمحـاذاة الرصيـف، مركـز سـرطـان الأطفـال. لا أزال أذكر الزحمة، أمام مدخـل المبنـى، حيث مركـز سرطـان الأطفـال اليوم. كان المبنى «مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت»، في حينه. والزحمة، مقصدها، الأقسام الاستشفائية فيه. إلى يسارك، مباني المستشفى القديمة، وهي اليوم مجمَّع لبعض العيادات الخارجية. تحاذيها، منشأة جديدة من منشآت الجامعة. الجديد، أنك ستجد في مسارك، موقفاً هائلاً للسيارات، خلف سور خشبي. دخول وخروج فسيحان منظَّمان. أما الموقف، فتخاله، للازدحام فيه، مقبرة للسيارات. كثيرة العدد. متلاصقة. الموقف فسيح، ينحدر من الأعلى بمحاذاة مباني المستشفى، إلى الأسفل، عند شارع كليمنصو. في الأعلى، تتمدّد مباني المستشفى، متلاصقة، في واجهة متجانسة. يلي المرآب، مجمع جفينور. الزجاج المحطَّم في المبنى الشرقي، بعد خمسة أشهر، لا يزال دون ترميم. وعلى الرصيف، تتكدَّس الدراجات النارية الصغيرة، ظاهرة مستجدّة، بعد الأشهر الخمسة.

شارع ويغان

في المدرسة العليا للأعمال (ESA) وبنك بيروت والبلاد العربية (BBAC). ضمّة من المباني، منها فندق «جفينور روتانا»، ثم المدرسة العليا للأعمال، قبالتها بنك بيروت والبلاد العربية. زحمة أمام البنك. المتاجر القليلة قبله، مشرَّعة الأبواب، فارغة. لم تستطع المدرسة العليا للأعمال، أن تبعث الحياة في الأمكنة. إنها موحشة خلف سورها، والبوابة، كانت موحشة، وأصبحت اليوم، أكثر وحشة. لا أحد. وحده الحارس، يراقب الممر الضيّق. وحدها الدراجات النارية الصغيرة، أضفت الجديد إلى الأمكنة.
القول ذاته مكرّراً، عن مركز كليمنصو الطبي. ثلاثة مبان منفصلة، المبنى الرئيس، ومبنيان ملحقان. تبدو الأبنية كأنها لم تُشْغَلْ بعد، أو أنها قد هُجِرْت. لا حياة. متاجر مفتوحة فارغة. المبنى المهجور منذ نصف قرن لا يزال مهجوراً. والأبراج السكنية قبالته فارغة.
التقاطع مع شارع جوستينيان، نقاط الحياة، مواقف السيارات، والشارع في طرفه. بعد شارع جوستينيان، صيدلية، ودكان للأزياء، وميني ماركت. كلها تعمل بشكل طبيعي. إلا أن اللافت، هو كثرة المجالات، غير المبنية، تُستعمل إلزاماً كمواقف للسيارات. قبالة التقاطع مع شارع جوستينيان، مجال غير مبني فسيح، هو بالضرورة موقف للسيارات. الفراغ موحش، فعدد السيارات فيه قليل جداً. ثم بعد الميني ماركت والطريق إلى مستشفى طراد ومنزل وليد جنبلاط، موقف آخر، فسيح بدوره، موحش أيضاً، السيارات فيه نادرة الوجود. وإلى يسارك، في حفرةٍ، موقف ثالث فارغ كلياً. إنه ثقب، مغطى بالأسفلت، يضيف إلى الوحشة، سواده. ثلاثة مجالات معتمة، في هذا الامتداد المجالي القصير. فراغ متكرر، يجزّئ مجالات الحياة في الأمكنة، ويعزلها. شارع كليمنصو، هو نقيض الشارع بالمضمون المديني. إنه طريق للعبور إلى المناطق المقابلة. نعبره. لا نتوقف فيه.
نقاط الحياة المتبقية والطرف الشرقي للشارع: نقف أمام الطريق الصاعد نحو مستشفى طراد. عناصر من قوى الأمن الداخلي، وحاجز معدني، يتيح للمسموح لهم أن يسلكوا الطريق. الواجهة الخلفية لدارة وليد جنبلاط، تطل على الموقف الذي يلي الطريق. لافت هو، تقاطع شارع كليمنصو، مع شارع مي زيادة. التقاطع في حراسة مشدَّدة أيضاً، لكنه مكان مميَّز يضج بالحياة. عاينَّا منذ البوَّابة نقاط الحياة المتباعدة الموجودة على جانبَي الشارع:
العيادات الخارجية في الجامعة الأميركية، والمنشأة الجديدة الملاصقة له، قبالتها مركز سرطان الأطفال.
مجمع جفينور بعدها، ملاصقاً فندق روتانا جفينور.
ضمّة من المباني، ثم مجموعة من المتاجر يليها بنك بيروت والبلاد العربية بزحمته الدائمة. قبالته المدرسة العليا للأعمال ESA، التي لم تضف إلى الأمكنة سوى اسمها.
التقاطعات تطرد الوحشة. صيدلية وميني ماركت بعد التقاطع مع شارع جوستينيان.

شارع المصارف مقفل ـ مؤسسة مون بلان مدفونة

نقف الآن عند التقاطع مع شارع مي زيادة. إنها نقطة الحياة الخامسة. المجال مميز هنا. إنه مشعٌّ. هُزمَت الوحشةُ. شعور بالدفء ساد المكان، وطرد منه الهجر والموت. «مكتبي» في البداية، بالسجاد العجمي المعلّق خلف الواجهة. ثم «بياف» للألبسة النسائية الجاهزة. ضرب عصف النكبة واجهات بياف، وقذفها إلى الداخل تُمزّق الثياب الأنيقة. كما ضرب مؤسسة «نست» Nest في المقابل. فانهار هيكل واجهاتها المعدني، فوق الأثاث. وها هي «نست» اليوم، بعد خمسة أشهر على الانفجار النكبة، تعود مزدهرة، جاذبة.
من شارع مي زيادة، إلى أبراج بنك البحر المتوسط المطلَّة على القنطاري: نقف في محور التقاطع، شارع مي زيادة – شارع كليمنصو. كل المجالات المبنية بعد «نست» مهجورة. الشارع مستقيم حتى طرفه الشرقي. كل ما فيه مرئي. نتقدّم في مسارنا شرقاً. بعد المجالات المهجورة، موقف للسيارات على عدة مناسيب. إنَّه الموقف الخامس، وهو فارغ كغيره. قبالة الموقف العقار 4105 كليمنصو. في جولتنا منذ خمسة أشهر، كان في الطابق الأرضي، خمسة متاجر أو مؤسسات. منها مركز للتجميل النسائي، كُتِبَ على بابه بالإنكليزية، رؤيةُ الجمال تذوّقٌ، وصناعةُ الجمال فنٌّ. أغلق «الفنَّان» مؤسَّسته بعد خمسة أشهر، وأخذ معه فلسفته، ورحل. المحالّ الأخرى أُقفِلتْ أيضاً. باستثناء مكتب الخطوط الجوية البولونية Lot. نجتاز مبنى مسكوناً، وفي طرفه، دكان لبيع الخضار، تحول إلى دكان لبيع الألبسة النسائية الجاهزة، له اسم فرنسي، كُتب باللغة الفرنسية وحدها. في المقابل، كل المنشآت مهجورة، وصولاً إلى مبنى الإدارة العامة لبنك البحر المتوسط (البرج القديم). المدرسة المجانية بسقفها القرميدي، عتيقة مهجورة. روضة مدرسة الحكمة ومدرسة الحكمة، مهجورتان. المدرسة المقابلة مقفلة. لا أحد في الشارع. يبتلع الأمكنة هنا، مجال غير مبني يحاذي الإدارة العامة لبنك البحر المتوسط، في برجها الجديد. إنه موقف السيارات السادس، يمزق نسيج الشارع. فارغ دائماً. مقفل دائماً. نصل بعد هذا المسار الطويل إلى برجَي بنك البحر المتوسط. بوابة الشارع الشرقية. حطَّم عصف النكبة بعض الزجاج. رُمّم الزجاجُ المحطَّم. البرجان يرسمان بفخامة، بوابة شارع كليمنصو الشرقية. الظاهرة الرئيسة، لا «شارع مديني» في الشارع. فيه بعض نقاط الحياة، والكثير من مواقف السيارت. هو باختصار مجال مهجور، وطريق للعبور، فقط.
قال لي أحد زبائني، إنّ الراحل رفيق الحريري حال دون شرائه، واشترى كامل الواجهة الغربية لمنطقة القنطاري، من شارع ويغان، إلى شارع سبيرز، بما فيه القصر الجمهوري القديم.

III ــ من أبراج «القنطاري» إلى أبراج «ويغان»، إلى ساحة الشهداء
بوابة شارع كليمنصو الشرقية، ومحيطها: خلال الأشهر الخمسة، اكتمل بناء برج الإدارة العامة الجديد، لبنك البحر المتوسط. «غلاس لاين» حيث يعمل بعض تلامذتي، بنوا بالزجاج وبالألمونيوم، الواجهات البالغة الارتفاع للبرج. باستثناء الواجهة الغربية، الملاصقة لموقف السيارات، التي بقيت صمَّاء مقفلة، قامعة. إنها عمارة نهاية العولمة، عمارة القرن الحادي والعشرين.
نترك البرجين خلفنا. أمامنا طريق باب إدريس المستحدث. جنوب الطريق كنيسة مار الياس القنطاري، وضمّة من المباني، تصنع الواجهة الجنوبية للطريق. بعد الكنيسة جنوباً المبنى الجميل المتوسط الارتفاع، بنوافذه المنتظمة، وبلونه العاجي الأصفر. شمال طريق باب إدريس، «المبنى الذكي» كما تقول الملصقات. ألواح زجاجية داكنة، تخبّئ نسيجاً من الألياف الضوئية، تولّد الكهرباء من الطاقة الشمسية، وتنير المبنى وتجعله «ذكياً». إلى يسار المبنى الذكي، «أوجيرو»، واجهة الطريق نحو شارع ويغان.

باتشي بطوابقها مدفونة ـــ كفنها حديدي أسود فوقه أكاليل الزهور الملوّنة

برج داماك فرساتشيه، وأبراج نورمان فوستر: ينحدر الشارع في منطقة القنطاري، ليتقاطع مع شارع ويغان. ويستمرّ بعدها الانحدار نحو منطقة الفنادق. ينتصب برج داماك أمامنا في الزاوية، عند تقاطع شارع ويغان مع بولفار الرئيس فرنجية. شرفات البرج زجاجية لينة الخطوط تلفّ جسد المبنى. زنّرت الملصقات سور ورشة البناء منذ سنوات، مشيدة بدور فرساتشيه في تأليف الديكور الداخلي وتزيينه. لم يكترث أحد بشهرة فرساتشيه، ولا يزال المبنى إلى الآن، رغم ترميمه وصيانته، فارغاً ، مهجوراً، مفزعاً.
تجاور أبراج نورمان فوستر «ثري بيروت»، برج داماك، لترسم معه جزءاً رئيساً من واجهة شارع ويغان الشمالية. أصاب الانفجار النكبة الأبراج الثلاثة، في الطوابق، وفي العلب الزجاجية، التي تؤمّن العبور بين المباني. الأشهر الخمسة مضت. الزجاج في الطوابق تمّ ترميمه. أما العلب الزجاجية المعلّقة، والمداخل في الطابق الأرضي، فلم تُرمّم. زجاج بوابات الدخول في الطابق الأرضي مرتفع. والعلب الزجاجية اهتزّت. وأعمال الترميم الجارية راهناً، هي صعبة ومكلفة.
شارع ويغان بعد خمسة أشهر، غالبية الأمكنة موحشة مهجورة. والواجهات المتبقيّة مصفّحة بالحديد الملحوم. عتمةٌ، وموتٌ، ودفنٌ، حتى ساحة الشهداء.
قلنا، إثر جولة قمنا بها في 9 آب 2020، إن كل المتاجر في الواجهة الجنوبية لشارع ويغان، كانت فارغة مقفلة، قبل الانفجار. وهي بعد الانفجار، محطَّمة الواجهات الزجاجية، عارية، فارغة، لم يكتمل بنيانها.
الجديد اليوم، بعد خمسة أشهر، هو أن الواجهات الزجاجية المحطَّمة، انتُزعَتْ. وصارت الأمكنة، مفتوحة، يقتحم الشارع داخلها، كأيّ مجال سائب مهجور.
عند الرصيف المقابل، كل المتاجر، مصفّحة اليوم بالحديد الملحوم، بإتقان. ومطلية باللون الأسود. يُقفل الحديد الملحوم، كل المنافذ إلى داخل المتاجر. الشارع خال من السيارات العابرة. ولا فضوليين على الأرصفة. الوحشة سيدةٌ، والهجر واضح.
هل هو الموت المعلن كما سبق وكتبت!؟ لا! أكثر من ذلك. بعد خمسة أشهر، إنه الدفن إكراماً للمتوفَّى. دفنٌ منهجيٌّ، إكراماً للميت.
المركز التجاري، في مجمَّع ستاركو، فارغ بالكامل. رُمّمت واجهات المحالّ! التجارية، ولكنها مهجورةٌ مفزعة. بعض الزجاج في الطوابق العلوية، استبدل بستائر من النايلون. ولا أحد في الساحة الشمالية، المسمَّاة زوراً، «ساحة الزيتونة».
لقد رُمّمت الواجهة الزجاجية المهيبة، وهي المدخل الرئيس لبنك عودة. نسير في جادة البارك، قبالتها. نحن في قلب «سوليدير». غالبية المحالّ التجارية مقفلة. العاملون ينظّمون التجهيزات في مقهى ومطعم «ليليز». «لوكوكتو» منظَّم، وأبوابه مفتوحة. تعدَّت الساعة الواحدة بعد الظهر، ولا أحد في المقهيين – المطعمين.
نتابع سيرنا في جادة البارك. يستمر الموت مهيمناً. غالبية المتاجر، على جانبَي الجادة، محطَّمة أو مقفلة بالأبواب المعدنية. مطعم «بلتوس» المعلم مات، ودُفِنت واجهته بعوارض خشبية. نزع أصحابه اسمه، ثم رحلوا، بعد دفنه.
بجانبه، مطعم «الجادة» يعاند، وهو يصرُّ على الاستمرار. وفي المقابل، مطاعم عادت إلى العمل، ومقاه جديدة، فيها روَّاد قلائل. كل هذا الاندفاع، لا يضخُّ الحياة في منطقة «سوليدير»، التي ماتت منذ ولادتها.
بعد مؤسسة الخياط «العالمي» إيلي صعب، وإعلانه عن معرضه الخاص، تفاجئنا حفرة بنك الموارد وسورها الخشبي. تبدو الحفرةُ، وكأنها مقبرة كبيرة، أُعِدَّتْ ليدفن فيها كل الموت الذي حولها. لم تمتلئ بعد الموت الحاصل، وكأنها تنتظر المزيد. تنبئ به أحوالنا العامة على كل الجبهات. من الانهيار الاقتصادي والمالي، إلى سرقة أموال المودعين، إلى المجاعة المقبلة، إلى الكورونا، التاج المتألّق على رأس هرم النكبات.

جادة البارك ـ المتاجر مدفونة بالأبواب المعدنية الجرّارة

بعد الحفرة المقبرة، «مبنى بنك عودة» رائعة المعمار الأسترالي كفن داش. أُعجب به ريمون عودة كما صرَّح مرة، فاعتمده، ليؤلّف له المركز الرئيس لمصرفه، وليرسم المبنى ذاته مكرراً على امتداد شارع ويغان، من مجاورة أبراج نورمن فوستر، إلى سوق الصاغة عند بوابة أسواق بيروت، إلى فندق «لوغراي» في محيط ساحة الشهداء. المبنى ذاته مكرراً. المفردات المعمارية ذاتها ملصوقة. لا ضرورة للجهد المكتشف. التكرار المملُّ كاف.
يتمدَّد مبنى المصرف، إلى المرتفع عند تقاطع شارع ويغان، مع شارع البطريرك الحويك. كتل صفراء صماء. رواق يؤدي إلى اللامكان، ويظلّل الباب الوحيد في هذه الكتل، باب فرع باب إدريس لبنك عودة. لا أحد أمام باب الفرع. لا مشاة في الرواق. لا مارّة في الشارع. لا حياة. موت محقَّق نُثِرَ كالرماد. فغطَّى كل الأمكنة. نُثِرَ الموت، ولا حاجة إلى الدفن. عند الرصيف المقابل، مبنى البنك الأهلي الأردني، بحجره الرملي، وببرجه الدائري المعلَّق على زاويته، والمدفون تحت ألواح الحديد الصلب. مات ودفن. باب البنك، ثقب في الكفن الحديدي. يحذو حذوه زهير مراد. ثقب الدخول، في أسفل المبنى.
«هرمس» مدفون في واجهتَيه. ساحة أسواق بيروت، بجوار زاوية ابن عرَّاق، فارغة. سوق الصاغة رحل من زمان. ونزع صبية الحراك، الحجر الأصفر عن سيقان الرواق أمامه، فباتت عارية، نحيلة، سوداء.
أسواق بيروت أشبه بمحطة للقطارات. قطار الشرق السريع سينطلق من سوق الطويلة، قلت منذ عقد ونيف من الزمن. سوق اياس، سوق الجميل، سوق الطويلة، ساحة «السوبر ماركت»، ساحة العجمي، كل هذه الأماكن ماتت لا حياة فيها. كل المتاجر دُفنت، تحت أكفانٍ من الخشب السميك الملوَّن.
في المقابل، في الواجهة الجنوبية للشارع، كل المتاجر مدفونة تحت صفائـح الحديد السوداء. شارع المصارف مغلق. مؤسسة «مون بلان» (Mont Blanc)، دفنت كل فتحاتها، تحت صفائح الحديد. لم أجد الثقب الذي يدخلون منه. وفي أسفل الشارع، بوابة شارع المعرض مقفلة بإحكام. هنا دُفنَتْ مؤسسة «روش بوبوا»، وكتب شاغلو المؤسسة على حديد الواجهة الرئيسة: نحن موجودون هنا. تفتش عن الباب، فتجد بصعوبة، ثقباً صغيراً مختبئاً عند حدود أقواس شارع المعرض المقفلة. تجد ثقباً كُتب عليه «روش بوبوا». تدخل، تفتح الباب، المجال كبير فارغ. فيه درج، يوصل إلى طابق سفلي فسيح مضاء.
«هرمس» مدفون في واجهتَيه. ساحة أسواق بيروت، بجوار زاوية ابن عرَّاق، فارغة. سوق الصاغة رحل من زمان. ونزع صبية الحراك، الحجر الأصفر عن سيقان الرواق أمامه


بين «مون بلان» في الأعلى، و«روش بوبوا» في الأسفل، كل المحالّ التجارية أُقفلت، وماتت، ودُفنت، تحت صفائح الحديد الأسود المخيف. هذا ما كتبته بعد جولتي الثانية في (9 آب 2020). أكرره اليوم، خمسة أشهر بعد الانفجار النكبة، إذ لا جديد في الأمكنة، سوى جنائزية الدفن المعمَّم. صحيح أن حطام الزجاج، لم يعد يدفن الأرصفة. إلا أن الشعور بالموت العام، حقيقي. وما هو حقيقي أيضاً هو أن دفن الميت بديهي. لذا نرى الدفن، خلف الحديد الأسود المثبت بتتابع من أعلى الشارع، إلى أسفله. لا جديد منذ 9 آب 2020، سوى الحرص على التأكيد من أن الدفن ثابت، بثبات صفائح الحديد في أمكنتها.
في المقابل، صفَّحت مؤسسة باتشي كل مداخلها، وكلَّ واجهاتها. في الطابق الأرضي، وفي الطوابق العلوية. دفنتها تحت صفائح الحديد. وموَّهت هذا الدفن، بالديكور وبالألوان وبالزينة. وكأنها وضعت الأزهار الملوّنة، فوق الأضرحة.
لا حياة في المتاجر الموجودة في الطابق الأرضي، من مبنى بلدية بيروت، ومعظمها مات، ودُفن. الحالة ذاتها تسود، في الشوارع المتدرجة، خلف مبنى البلدية. كانت أمكنة للحياة، فصارت مدافن. الوضع ذاته يسود في كلّ من شارع اللنبي، وشارع فوش.

IVــ ماذا في الخلاصة؟
لشارع ويغان موقع مميَّز في المدينة، وفي حياتها الاقتصادية. يتفرَّد الشارع بطوله، وبموقعه، وبارتباطه الوثيق بالأسواق التقليدية، وبصلته الحميمة بساحة البرج. كانت المباني فيه متلاصقة قبل الحرب الأهلية، (1975- 1989) ترسم جداراً حقيقياً للشارع في واجهتَيه، الشمالية والجنوبية. مركز النشاط التجاري الرئيس فيه، قبل الحرب، كان في منطقة باب إدريس مع سوق الإفرنج وامتداداته إلى داخل الأسواق التقليدية. أما المركز الثاني فكان في منطقة بلدية بيروت، وامتداداتها في كل من شارع اللنبي، وشارع فوش، وشارع المعرض. ومن النقاط المميزة في نبض الشارع، مرُّوش في شارع فوش، و«صحن الفول بليرة»، و«ميرزا» في طرفه الغربي، مع حشيشة البحر، والفجل، والبقلة. وأوتوماتيك إدريس قبالة مبنى البلدية، والجليلاتي يلاصق جامع الأمير عساف. وفي داخل الأسواق، المطاعم الشعبية في سوق الجميل، والعجمي في الطرف الشمالي لسوق أياس. اندلعت الحرب الأهلية. تبعها اجتياح إسرائيل لبنان. ثم الحروب المتتالية، التي لم تنته، إلا بمؤتمر الطائف في عام 1989.
دمَّرت الحروب قلب المدينة. وحمل مؤتمر الطائف معه شركة «سوليدير»، لتعيد بناء ما دمّرته الحرب. فدمَّرت الشركة كل شيء، ومحت تاريخ المدينة. وأعادت بناءه، ضاحية للأغنياء. ماتت مع الانتهاء من بنيانها. أما شارع ويغان، فجاء مع إعادة إعماره، فارغاً، مهجوراً، منسياً، كما عاينّاه في جولتين سابقتين. واحدة قبل الانفجار النكبة، وثانية في 9 آب 2020 بعد الانفجار.
في الخلاصة إذاً، خمسة أشهر بعد الانفجار النكبة، تسود الوحشة، ويستوطن الفراغ والهجر، وتسكن عتمة الموت المعلن، المسار بكامله، من بداية شارع كليمنصو، إلى بوابته الشرقية، إلى نزق الأبراج في بداية شارع ويغان، إلى المكان الفصل أمام مبنى بلدية بيروت. وما إعمار سوليدير، سوى صورة جديدة منقّحة، من صور الموت. سار قلب المدينة على درب الموت من زمان. قتله الانفجار النكبة منذ خمسة أشهر. لم يستطع ناس الأمكنة في قلب المدينة، تحمل آلام موته طويلاً، فدفنوه.
مات قلب المدينة.
دُفن قلب المدينة.
ماتت المدينة معه.
دُفنت المدينة.

* معمار لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا