كان جيرار دو نرفال يحلم بأنه يصعد في السماء، خالعاً ملابسه الأرضية ومبعثراً إياها في مِعراجه، سائراً نحو نجمة تلمع في الأفق، مجتذبة نفسه التي قد تنفصل عن نفسه بين لحظة وأخرى ثم ينزل من جديد بين البشر، وأنه قد أصبح فجأة رجلاً عظيماً فائضاً بقوة كهربائية قادرة على أن تمسّ كل ما يقترب منه: رؤيا تحيلنا إلى المعراج المحمدي وحديث شقّ الصدر والجدل بين المفسرين في وقوعهما في عالم الرؤية أو الرؤيا، الغيب أو الشهادة. أطلق سان جون بيرس في كتابه العظيم «منارات» على الشاعر لقب الحالم، وتماهت القصيدة تماماً مع الحلم، لنراه يخاطب الشعر بقوله: «يا نعمة أن نتوهّم حياتنا لا أن نعيشها، يا حظوة أن نرى الأشياء وكأنها سراب». يقول أوكتابيو باث إن الشعر هو الأنتي ـ-تاريخ، أو المضاد الحيوي للوقت الذي هو العامل الأكثر تراجيدية في هذا التاريخ: الشعر هو قفزة فوق منطق التاريخ السائر إلى حتميته بالمعنى الهيغلي، بل هو منظومة أخرى للبحث عن المعنى. من هنا، يتقاطع الشعر بقوة مع الحدس والرؤيا والحلم كما يقول ابن عربي: «الحس طرف أدنى والمعنى طرف أعلى وألطف والخيال بينهما، والوحي معنى فإذا أراد المعنى أن ينزل إلى الحس، فلا بد أن يعبر على حضرة الخيال قبل وصوله إلى الحس، والخيال من حقيقته أن يصور كل ما حصل عنده في صورة المحسوس لا بد من ذلك فإن كان ورود ذلك الوحي الإلهي في حال النوم سُمي رؤيا وإن كان في حال اليقظة سُمي تخيّلاً أي خُيل إليه فلهذا بُدئ الوحي بالخيال». نحن إذن في تلك «الجهة الأخرى» التي يأتي منها الشعر والحلم والوحي، جهة «الطور الأيمن» بوصف ابن عربي نفسه «فأسمعهم في قلوبهم حديثاً لا يكيف سماعه ولا يأخذه حد ولا يصوره خيال ومع هذا يعقله ولا يدري كيف جاء ولا من أين جاء ولا ما سببه، وقد يكلمه من وراء حجاب صورة ما يكلمه به وقد يكون الحجاب بشريته وقد يكون الحجاب كما كلّم موسى من الشجرة من جانب الطور الأيمن له، لأنه لو كلّمه من الأيسر الذي هو جهة قلبه، ربما التبس عليه بكلام نفسه فجاءه الكلام من الجانب الذي لم تجر العادة أن تكلمه نفسه منه».
لوغو المدوّنة

تكمن أهمية مشروع «النائم» كفكرة وتنفيذ الزميلة أحلام الطاهر في التسجيل الصوتي لأحلام الشعراء والروائيين والأدباء في فترة الحَجر في اقتحام هذه المنطقة «غير المنظّمة» تماماً في الأدب العربي، إذ لطالما عثرنا على الحلم والرؤيا كمادة لأحلام النبي أو الولي أو الخليفة كتنويع على الحلم الإبراهيمي أو كمادة خفيفة للتأويل تُستعمل للرقية وطرد الجن والوساوس على طريقة ابن سيرين، كأنّ الحلم قد شغل المخيلة العربية بكونه إفلاتاً من الواقع وقبضته، لأن الحلم لم يقتحم تلك المنطقة الصعبة نحو الإبداع. ونستشهد هنا بمقالة أدونيس في تقديمه لترجمة «الماء والأحلام» لباشلار: «لعلنا جميعاً نعرف أنّ قوى التخيّل عند العرب شُغلت على الأخص بفتنة العين والنظر، البصر قبل البصيرة، وقد انعكست هذه الرؤية «النفعية»، «السطحية» على اللغة نفسها. والحق أنّ اللغة العربية تفتقر، استناداً إلى طرق استخدامها السائدة، إلى الغوص على الجوهر. تفتقر إلى حركية الماء وسيولته، إلى حرية الحلم. تحتاج إلى أن تكون نفسها، من جديد، مثلما كانت في بداياتها: لغة لا تنقبض. لا تتعثّر. لا تتردّد. لا تخلق بنفسها شرطاً على نفسها. تنساق مثل أمواج تموسق خطواتها، مدّاً وجزراً. لا تكون اللغة نفسها إلا بوصفها ينبوعاً، وحرّة كينبوع، كماءٍ يتدفق طلقاً».
أهمية مشروع «النائم» هي السماح لهذه الكوكبة من المبدعين بالحلم في اللغة العربية ومائها الطَّلق، والنظر إلى وجوهنا لا كسوسنة مزروعة في التراب يحكمها ضغط الواقع، أو «العقل العملي»، بل لنتعامل مع مادة متحرّكة، يحكمها جدل عظيم بين الظاهر والباطن، زهورٌ طافية فوق نهر لا يكون نفسه مرتين، لا نعرف كيف يعجنها العنصر الثالث بطميه وطينه تحت المياه المتحركة، هذا العنصر الثالث في مشروع «النائم» يطرح نفسه بقوة على العالم هو الوباء وما يقتضيه من الحجر والعزلة والتأمل في الإنسان والطبيعة والكون. الشاعر اللبناني عيسى مخلوف هو الأول على البودكاست الصوتي، رأى أنه على شاطئ معزول منتظراً سفينة لا تأتي، ليجد نفسه مدفوعاً على هدي ضوء خافت نحو نافذة تقام خلفها حفلة لأشخاص مقنّعين، يتوسطهم رجل عارٍ تماماً وبلا قناع يرقص ويلتفت فجأة إلى الشاعر ويقول: «هذا هو»، ليركض الجمع بأسره نحو نافذة الشاعر. الشاعرة والروائية المصرية هدى عمران تستحضر كائناً رهيباً أشبه بملاك الموت يحمل منجله ويدور على بيوت الشاعرات، فتهرب منه لتجده في انتظارها بعد العودة إلى البيت، كما تسمع في منام آخر صوتاً أشبه بصوت الإله يناديها «يا غزالة الشعر، أنت تأكلين حُلماً نيئاً فقولي الآن أهلاً».
دانيال بيناك يحرر الأحلام من خانة التحليل النفسي ويعتبرها الأصل لبناء الحكاية

الحرب حضرت بخاصة في أحلام المبدعين والكتّاب السوريين، كالروائي خالد خليفة الذي يدعوه أصدقاؤه في المنام إلى السويد فيأخذهم إلى حلب، والكاتبة ياسمين الترك التي مثل زرقاء اليمامة ترى الحرب تتقدّم بأسلحتها وطائراتها وخرابها من فوق المدن المدمّرة. الخوف يحضر على صورة الأسنان والخوف من فقدانها عند الشاعرة المصرية رنا التونسي، وعند الشاعر العراقي خالد شاطي حيث نسمع عن أحلام السجن والقمع أيام النظام السابق والجريدة التي تخترق أسوار الزنزانة ومتلازمة نفسية عن لاعب كرة قدم هندي اسمه رافاشي يفقد ساقيه ويظل لمدة شهرين يقول بأنه يلعب في مركز خط الوسط حتى بعد البتر. القاصّ المصري أحمد عبد اللطيف يخبرنا عن لصوص يدخلون بيته، بالمئات، ويجتاحون المطبخ وغرفة النوم، وينظرون إليه وكأنهم أصحاب البيت وهو الغريب أو الدخيل بينهم. الممثل اللبناني رائد ياسين يزوره الشيخ إمام في منامه قائلاً: «قول للناس توقّف تغنيلي عشان مش بعرَف أموت كويس وبتألم في قبري». هذه الأحلام تحيلنا إلى ما يسميه باشلار في كتابه حول الأحلام «مناولة للأرواح تؤديها الصور في عظمتها، وبحيث يمكننا تعلّم لغة الشعر مباشرة لأنها لغة الروح »، المناولة التي تفترض الجمع والحفل والبشارة تبقى قائمة حتى في زمن الوباء والعزلة والموت.

رابط المدونة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا