شباب وأطفال يركضون، حفاة، على الرمل والحصى. يلعبون كرة القدم، يركلون ويرقصون مع الكرة. يعاملونها كأنها الكوكب، وفي لحظة يركلونها بعيداً. هم لاجئون سوريون «مسجونون» في مخيم الزعتري في الأردن. آفاقهم محدودة، ومواردهم قليلة، ولكن أحلامهم لا حدود لها. «كابتن الزعتري» أكثر بكثير من مجرد وثائقي عن كرة القدم، إنه وسيلة المخرج والمراهقين لجعلنا نفكر في المُثل والمبادئ والأخلاق والأحداث والأيدي التي تلعب بمصير ومستقبل بشر أحلامهم أهم من كلّ النفاق والحروب والنزاعات السياسية.فوزي قلطيش ومحمود داغر، سُلبت منهما كل الفرص عندما أصبحا لاجئين، كما يقولان. مراهقان يعشقان كرة القدم، ويلعبانها بحرفية. هي حلمهما، ووسيلتهما الوحيدة للخروج من واقعهما. «كابتن الزعتري» الفيلم الأول للمخرج المصري علي العربي (يُعرض اليوم وغداً في «مهرجان صاندانس السينمائي»)، يلاحق الشابين، يعرّفنا إليهما، وإلى أحلامهما، عائلتهما، حياتهما في المخيم، صداقتهما، حبهما العذري، وعشقهما ولعبهما لكرة القدم، والأهم «الفرصة» التي أتيحت لهما للخروج من المخيم، والتدرب واللعب في بطولة للناشئين في الدوحة. إنها قصة الفداء، والتضامن، والأسرة، والمجتمع، والأهم الإيمان بالنفس.
بطريقة ذكية جداً، عرف الثلاثة (علي العربي، فوزي ومحمود) كيف يخبروننا قصتهم. لم يكشفوا لنا كل أوراقهم، البديهيات معروفة، وأسباب واقعهم معروف. ما أرادوه فرصة لقول ما لديهم، وعلي أعطاهما إياها. لم يجلسهما ليتحدث معهما، لم يصورهما بكاميرا ثابتة وحقّق معهما، لم يستغلهما. بل تركهما يعيشان، يتحاوران، يتناقشان والكاميرا تراقبهما، لم تقترب منهما كثيراً، لم تزعج خصوصيتهما، بل ترك علي العربي لهما الحرية بدعوتنا لنكون في ضيافتهما. أنيقة كاميرا علي، فيها شيء من النبل. حقيقية صادقة ومثيرة للإعجاب، والأهم هي الصداقة الواضحة التي نشأت بين الثلاثة ومعهم الكاميرا وبالتأكيد حب اللعبة وحب بعضهم لبعض. فوزي ومحمود ذكّرانا لماذا نحب كرة القدم. منعشة رؤيتهما يلعبان، رغم كل الرمل والحصى والتراب. على العشب الأخضر لا يهمهما «الالتزام التكتيكي»، ولا الأحذية الرياضية، يتمتعان بلعب الكرة حافيين في الليل، ليشعرا بالعشب على أرجلهما. «كابتن الزعتري» فيلم عن أرواح مهزومة، ولكن مع وميض عابر، يشعرنا بالخجل لما يحدث، ويعلمنا أسباب استمرار المضطهدين في الحياة واللعب.

مشهد من الفيلم

كان لالتزام علي العربي الصارم في الإخراج وأكاديمية العرض، وفي مزجه بين نوعين من الوثائقيات («الوثائقي الشعري» و«المراقبة الوثائقية»)، أثره في الفيلم، وقد ضيّع بعض الأشياء من بين يديه. شاعرية الفيلم تخلخلت في بعض المشاهد، والمراقبة تحوّلت إلى حديث مباشر مع الكاميرا في مشهد واحد، بلا داع. وفي بعض الأحيان الدراما والإثارة التي خلقها علي كانت في غير محلها، ولم يظهرها بحدة رغم ضروريتها. الوقت، وبالتحديد التواريخ كانت مفقودة في الفيلم، التاريخ والأيام عاملان مهمان في فيلم مماثل، لأننا عشنا أياماً وسنوات مع المراهقين. لذلك كان من المهم أن نعرف الجدول الزمني للأحداث. كان علي ضبابياً بعض الشيء، الصداقة بين الثلاثة واضحة، لكنّ المخرج تغاضى عن بعض الأشياء الضرورية في حياة فوزي ومحمود، ومرّ عليها مرور الكرام. كنا نتمنى أن نتعرف إلى فوزي ومحمود أكثر، أن نعرف من هما حقاً خارج الملعب. وكان ممكناً أن ينجح في ذلك، لأنه يعرف تماماً كيف يصوّر شخصياته. وعلى الرغم من واقعهما، لم يسمح المخرج لنفسه أو للفيلم بالإشفاق عليهما، لذلك بعض التقرب منهما كان ليعطي الفيلم الجو الحميمي المفقود تقريباً.
فيلم متقن الصنع، حيوي مع الموسيقى والصوت


ترك علي العربي فيلمه بحكمة يتحول إلى شيء أكبر من الملعب وكرة القدم والمراهقين. لكنّه لم يعلق عليه، بل ترك الشابين يتكلمان في ما بينهما عنه، خاصة في النظرات. نظرات فوزي ومحمود لما يحدث حولهما في مخيم الزعتري أو في مخيم التدريب والبطولة يكشف الكثير عن تفكيرهما. نظرات ذكية، وكاميرا علي تغمز وتلتقط. استطاع علي والمراهقون أن يبتعدوا عن السياسة قدر الإمكان، ولكن لا مفر من الهروب منها وإن لم يتحدثوا عنها. المخيم (خاصة مخيم الزعتري، استُغل سياسياً كثيراً) والتدريب والبطولة في قطر، ليست لأسباب إنسانية مئة في المئة، فالسياسة لها دور كبير فيها. ولكن الثلاثة عرفوا كيف يحكون لنا ما يجري بطريقة ذكية، وبقليل من البوح، والكثير من التلميحات.
تماشى العرض المرئي مع الفيلم، فالحركة في الملعب بدت عميقة وسريعة، وخارجها ثقيلة بعض الشيء. التقط علي كل شيء بأناقة، والنتيجة فيلم متقن الصنع، حيوي مع الموسيقى والصوت. ينتهي بينما يبتعد فوزي ومحمود عنا وعن الكاميرا، عندها نشعر تماماً أننا سنشتاق إليهما، وسنسأل عنهما وعن أحوالهما، وبالتأكيد لن نتركهما كما لن يتركهما علي العربي. في النهاية، هما لا يريدان منا شيئاً، بل ربما شيء واحد قاله محمود في مؤتمر صحافي في الفيلم بعد المباراة: «بدنا الفرصة لا الشفقة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا