اكتفى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بالتعليق على تجاوز عدد ضحايا جائحة كوفيد ــ 19 في بلاده عتبة المئة ألف ضحيّة بقوله: «أتقدّم لكم بالتعزية. أنا متأسف بشدّة»، و«لقد فعلنا كل ما أمكننا فعله». وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، حيث تجاوز العدد 425 ألف ضحيّة بين الأميركيين، قدّمت إدارة ترامب قبل رحيلها أسوأ نموذج ممكن للتخبّط الحكومي في الاستجابة لتحدي الوباء (شاهد وثائقي Totally Under Control – 2020 للتفاصيل المرعبة عن ذلك). هذه المأساة التي يشكّل الفقراء والملوّنون أكثر من 80% من مجموع ضحاياها في الغرب، لا تبدو في طريقها للتباطؤ في وقت قريب، إذ يستمر عدّاد الموت في كسر أرقامه القياسية اليومية، ويتحوّر الفيروس في طفرات متلاحقة تجعله أقدر على الإيذاء والانتشار، وتتعثّر جهود حملات التلقيح وتتأخر عن كل برنامج وُضع لها. في مقابل هذه الديستوبيا التامة، نجحت الصين ـــ القارة التي تضم ربع البشريّة ـــ في القضاء على الوباء خلال أقل من ثلاثة أشهر (و76 يوماً من الإغلاق التام) لمدينة ووهان (11 مليون نسمة)، حيث كانت النقطة صفر لكوفيد ــ 19، ليتحوّل بعدها محليّاً إلى مرض فيروسي نادر الحدوث، وغالباً ما يحمله معهم مسافرون آتون من الخارج. لكن هذا الإنجاز الخارق بكل المقاييس وبحكم خضوع العالم لمنظومة الإعلام الرأسماليّ الغربيّ، يكاد يتوارى وراء سيل من الأخبار الكاذبة المسيّسة عن اضطهادات مزعومة لأقليّة الإيغور، أو تحركات القطع البحريّة الصينية في بحر الصين الجنوبي وغيرها.
لكننا ربما كنّا محظوظين على نحو ما لأن هاو وو Hao Wu صانع الأفلام الوثائقيّة الأميركي من أصل صينيّ، كان قد ترك نيويورك حيث يقيم ليزور والديه في شنغهاي في مناسبة العام الصيني الجديد. تصادف ذلك مع انتشار فيروس قاتل غامض في ووهان. مرّت الاحتفالات حينها ثقيلة وصامتة وقلقة. قبل أيّام قليلة من رأس السنة، أعلنت «هيئة الصحة الوطنية» الصينية أن فيروس كورونا الجديد قابل للانتشار بين البشر بشكل وبائيّ. وقبل عودته إلى نيويورك، عاش هاو وو أجواء الإغلاق (غير الرسمي) في شنغهاي عندما خلت الشوارع النابضة أبداً بالحياة من أبطالها، وانزوى الجميع في شققهم يتابعون نشرات الأخبار بهلع.
أيقظ ذلك المشهد العجائبي غير المعتاد ــ لمدينة كانت لا تنام ـــ في هاو وو فضول صانع الوثائقيّات لمعرفة ماذا يجري على الأرض. في البداية، تواصل مع صحافيين ومصورين في ووهان ونيويورك وعواصم عالمية عدة، وطلب منهم موافاته بتسجيلات حيّة من نقاط الاشتباك مع الفيروس، لكنّه قرر في النهاية التركيز على ووهان وحدها، إذ لم يكن سهلاً الحصول على أذونات التصوير في مستشفيات الغرب التي تديرها تكتلات تجاريّة عملاقة تخشى الفضائح (الولايات المتحدة) أو إدارات حكوميّة تُعنى بالمسؤولية القانونية (بريطانيا). في المقابل، ورغم السيطرة المركزيّة الصارمة في الصين، فإنّ كثيراً من القرارات تُتخذ على المستوى المحليّ، حيث الأمر متروك لرئيس المستشفى ليقرر السماح بدخول الصحافيين إلى مناطق التلوث بالفيروس من عدمه. أمر أتاح الفرصة لمراسلين صحافيّين صينيّين ــ ييشي تشن Weixi Chen وآخر فضّل إبقاء اسمه مجهولاً ـــ بالتقاط مقاطع فريدة من نوعها من قلب أربعة مستشفيات حكوميّة، تتابعت سريعاً مع استمرار تفشي الوباء وفرض الإغلاق التام على ووهان التي يزيد عدد سكانها عن سكان مدينة لندن بضواحيها. وبعد عودته إلى الولايات المتحدة، بدأ هاو وو بتجميع مشاهد مختارة من أكثر 200 ساعة من التصوير أرسلها إليه المتعاونون من الصين. والنتيجة كانت الشريط/ الوثيقة «76 يوماً » (2021، 93 دقيقة) الذي أُطلق سينمائيّاً قبل أيّام (في بعض البلدان) وعلى مواقع المشاهدة حسب الطلب («أبل بلس» و«أمازون برايم» و«يوتيوب» و«غوغل بلاي») في الذكرى الأولى (23 يناير) لفرض قرار الإغلاق على ووهان.
يُفتتح الشريط بمقطع تم تصويره في الأيام الأولى الفوضوية للوباء. لحظات كابوسيّة كتلك التي تتوقعها في فيلم رعب. لكن هنا الحقيقة كما هي: جحافل من الناس المرتجفة والخائفة والمرضى المحتملين يتدافعون ويطرقون على الأبواب في محاولة للحصول على فرصة الدخول إلى المستشفى، بينما يبذل الفريق الطبيّ غاية وسعه في محاولة الحفاظ على حدّ أدنى من النظام لمنع اجتياح المبنى بالكامل. كما يضطر هذا الفريق إلى التعامل مع نقص المعدات بشكل مؤلم. فما الذي يمكنك عمله عندما يكون المريض في حاجة ماسة إلى التنفّس ولكن المعدات اللازمة لتزويده بالأوكسجين غير متوافرة؟! يندفع هؤلاء العاملون إلى حافة الإرهاق وهم يقدّمون كل ما في وسعهم لرعاية مرضاهم، ولكن هذا لا يكفي دائماً. إذ لا بدّ من لحظات مدمّرة عندما تضطر مثلاً لمواساة إحداهن وهي تتوسل الأطباء السماح لها برؤية والدها المتوفى للتو مرة أخيرة، بينما يتم نقل جثمانه بعيداً. يمنعها الفريق ويرافقها بعيداً، فتصرخ «بابا، سوف تبقى في قلبي إلى الأبد». أو عندما يُلقى بممتلكات المتوفى في صندوق مليء ببطاقات الهوية وهواتف الرّاحلين ليضيء أحدها، مشيراً إلى 31 اتصالاً سابقاً لم يتم الرّد عليها. يا له من تذكير مؤلم بالكلفة البشرية الفادحة لهذا القاتل الخفيّ.
يستمر الفيلم بعدها في سرد حكاية المواجهة من دون راوٍ من خلال مقاطع تسجّل لحظات بسيطة حقيقيّة لا مُخرج لها للحدث في أجنحة العناية المركّزة المعزولة حيث تكاد تضمحلّ الحدود بين الحياة والموت، وبين الفرح والخيبة، وبين الإرادة والعجز، وبين السخط والامتنان. تقول إحدى الموظفات لزميلتها إنّ زوجها كان يمانع التحاقها بعملها في المستشفى عندما انتشر الوباء، لكنها أقنعته بأن تلك كانت ربّما فرصتها الوحيدة في الحياة كي تصير البطلة التي أرادت دائماً أن تكونها. نرى العاملين وهم يفعلون ما في وسعهم للتماسك وإظهار القوّة وهم يمررون الرسائل من وإلى أفراد الأسرة الذين لا يستطيعون أن يكونوا هناك إلى جوار أحبائهم، قبل أن يضطروا أحياناً للاتصال بالعائلات ثانية طالبين حضورها لتسلّم أغراض المتوفين مع شهادات الوفاة الرسميّة. في مرحلة ما، تصل امرأة لتضع طفلاً عن طريق الولادة القيصرية، ويتعين عليهم أن يخبروها بأنه لا يُسمح لزوجها بالتواجد معها فحسب، بل إن طفلها سيؤخذ منها لتبقى وحدها في العزل الصحي.
معظم المرضى هم من كبار السن والجدات والجدود. إحداهن كانت تمسك بيد الطبيب وهي تتنفّس بصعوبة ولا تتركها. أصابع منتفخة لعجوز مسنّة تتشبث بيد غريب توارى وراء طبقات من معدات الوقاية الشخصية. هناك أيضاً ذلك الصياد المتقاعد المسن المصاب بالخرف الذي ضاق بالتمدد على السرير ويحاول باستمرار مغادرة المستشفى والعودة إلى دياره. وآخر كان يصرخ من الألم، فطلبوا له على الهاتف ابنه الذي سخر منه قائلاً: «أنت لست عضواً بالحزب الشيوعي منذ سنوات طويلة. لو أنّك كذلك، لكنت مثالاً في التعامل مع الفريق الطبي بدلاً من الصراخ المستمر»، ليغضب الوالد ويردّ: «بلى إنني عضو في الحزب، لكنني أتألم بشدّة». وفي مقابل المشاهد المحزنة، هناك أيضاً كثير من الانتصارات الصغيرة ولحظات المرح المخطوفة: وداع الناجين لدى مغادرتهم المستشفى، الكتابات الساخرة إلى جانب الأسماء على بزّات الحماية الشخصيّة البيضاء التي يرتديها الفريق الطبيّ، أحد المرضى الفقراء الذي شفي ولا يرغب بالخروج لأن قريته متخلّفة ولن يحصل فيها على عناية وطعام كما هنا، وآخر أخذ كل ما أمكنه حمله من المستشفى بما فيه أكواب الماء البلاستيكيّة.
الفيلم وثيقة على لحظة رئيسة في التاريخ... لحظة قاتمة وسوداويّة


لا يحاول هاو وو تقديم رسالة سياسيّة من الفيلم. فهو في النهاية ابن الثقافة الأميركيّة أيضاً، اختار بدقّة مشاهد مؤثرة إنسانيّة للغاية لكنها محايدة إلى حد كبير. ولولا الحروف الصينية لصلُحت لأن تكون من أيّ مكان في العالم. مع ذلك، فلا مناحة من عقد المقارنات، ولا سيّما أن تشاهد الالتزام الكليّ بالإغلاق في المدينة، وارتداء الجميع الكمامات في كل الأوقات، وانتشار الكوادر الرسميّة لتوزيع الحصص التموينية ومساعدة السكان ونقل المرضى في سيارات الإسعاف. تلك ليست مجرّد صدف. هذا نظام سياسيّ – اجتماعي – اقتصاديّ متكامل بني خلال عقود متلاحقة، ويشعر المواطنون فيه بالانتماء وحس عال بالواجب والمسؤوليّة تجاه المجتمع نتيجة وعي إنساني مستقر مرتبط بالنتائج على الأرض لا بالخزعبلات الدينيّة أو الثرثرات. ربما تكون شوارع نيويورك أكثر جاذبيّة من ووهان التي لا تقلّ عنها جمالاً في الحقيقة، لكنّك عندما تمرض بكوفيد ــ 19 وليس عندك تأمين طبيّ من الدرجة الأولى، فإنك حتماً ستتمنى لو وُلدت وتعيش في ووهان. والأهم من ذلك، ستكون للفيلم قيمة كبيرة للمشاهدين في المستقبل كأنّه كبسولة زمنية من لحظة رئيسة في التاريخ... لحظة قاتمة وسوداويّة، لكن فيها من نقاط النّور المتفرقة والانتصارات الصغيرة ما يكفي لتبقى في قلوبنا جذوة الأمل والتفاؤل بقدرة البشر في مختلف مواقعهم على التضامن معاً لأجل المصلحة العامة والغد الأفضل: نقاتل معاً، ونعتني بمن يسقط منّا وسط المعركة، لكننا في النهاية ننتصر.
ينتهي «76 يوماً»، في الرابع من نيسان (أبريل) 2020، وقبل أربعة أيّام من انتهاء الإغلاق التام لووهان على مشهد عظيم عندما تقرع السيارات وأجهزة الإنذار أبواقها وتتوقف الحركة في المدينة تحيّة لأرواح الشهداء الذين فقدوا أرواحهم في المعركة مع كوفيد ــ 19. لقد صنعت الصين ستالينغرادها المعاصرة (المدينة الروسيّة التي قاومت حصار النازيين طويلاً ولم تستسلم ومثّلت نقطة تحوّل في الحرب نحو اندحار الألمان عن روسيا): إنّها ووهان، ومنها فليتعلّم الآخرون.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا