يعالج الباحث التونسي محمد المزوغي الموضوعات الشائكة في الغالب. لا يهادن النصوص التراثية أو الفلسفية التي يتعاطى معها. خلال هذا العام، أصدر كتاباً حمل عنوان «هشام جعيط: منطق المؤرخ الدولة المدنية والصحوة الإسلامية» قارب فيه خلاصات صاحب الأطروحة الشهيرة «الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر». في «تحقيق ما للإلحاد من مقولة» (منشورات الجمل ـــ 2014) يتطرق أستاذ الفلسفة في المعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية (روما) إلى قضية وجود الله التي شغلت حيزاً هاماً في اهتمامات الفلاسفة والفيزيائيين والأدباء، غرباً وشرقاً. لا تنحصر الأفكار المدرجة في إطار رصد الاتجاهات الفلسفية حول مقولات الإلحاد ونقيضها. ثمة عرض نقدي جدالي للمسألة الدينية وقضاياها، وتفنيد صادم وجاف أحياناً للأديان التوحيدية ونصوصها المقدسة.
يحاول صاحب «العقل بين التاريخ والوحي» تقديم وجهة نظر نقدية لدحض أطروحات بعض المفكرين الأوروبيين وفي طليعتهم الفيلسوف الإيطالي بنديتو كروتشي (1866_ 1952) ممن يسميهم الكاتب «المؤمنين وأشباه المؤمنين» بشأن إثبات وجود الله. لا تكتفي المادة بعرض آراء حول وجود الله ونفيه فحسب، بل تقارع المعتقدات الدينية كون العقل لا يقبل الأساطير والمرويات الخرافية التي أنتجتها الديانات. موقف واضح وصريح يتبناه المؤلف تجاه مقولة الملحدين القائلة بأنّ الطبيعة علّة كل شيء. هي كائن موجود من ذاته ومكتفٍ بذاته، تُسيّر العالم بحسب قوانين خالدة لا علم لها بها.
يدرس صاحب «الإيمان والعقل في الإسلام موازنة تاريخية نقدية» الحملة الشرسة ضد الملحدين في العصور المتقدمة والمتأخرة. ينقد خلاصة الفيلسوف والرياضي الفرنسي باسكال (1623 ـــ 1662) حول شقاء الإنسان دون الله التي ضمنها كتابه «خواطر». يتساءل: لِمَ الإلحاد؟ ما السبب في وجود الملحدين؟ لماذا الإلحاد أصلاً؟ ما الشيء الذي دفع بشريحة واسعة من العلماء إلى نكران الله؟ يستعين بأنساق فكرية عدة لتحجيم إيمان المؤمنين، ليس عبر رفد نصه بأدوات ومواقف القائلين بغياب عقل ناظم للكون فحسب، بل عبر تفنيد أفكار علماء الكلام المسلمين حول الله وصفاته وأفعاله وطبيعته من خلال تفكيك تصوراتهم التي راوحت بين التجسيم والتبعيض والتنزيه المطلق الذي وصل إلى حد التعطيل. لا يفوته الإضاءة على ما اجترحه آباء الكنيسة الأوائل حول «الله المتجسم»، إذ اعتقد أغلبهم بذلك، وبعضهم سحبوا منه صفة الامتداد ولكنهم وضعوه في مكان ما في السماء.
يرى صاحب «عمانوئيل كانط: الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص» أنّ السبب الأول في الإلحاد يعود إلى الكتب المقدسة ذاتها. تنهض وجهة نظره هذه على نقد الروايات و«الأساطير» الواردة في التوراة والتلمود والقرآن والانجيل مؤكداً أنّها بما تحويه من «خرافات» تدفع الإنسان العاقل إلى رفضها وشجبها وعدم تصديقها لأنها تخالف العقل «فهي تطلب منا أن نصدق ما هو مخالف للمنطق وغير قابل للتصديق».
يدحض مقولات الفلاسفة حول
شقاء الإنسان تعاسته من دون الله

يحاجج المزوغي مقولة سلطة الإجماع ورسوخ الفطرة التي تتجه إلى اعتبار أن الاعتقاد في الإله له مبررات دامغة في الجانب التاريخي والفطري، كون الإنسان مجبولاً على الإيمان بوجود الخالق. يستشهد باعتراضات القاضي عبد الجبار المعتزلي (969 ـــ 1025)، وأبي بكر الرازي (865ـــ923) الذي لم ينكر وجود الله بل أقر بوجوده، وقال بأنه منح العقل للإنسان ليفكر به، وجمهرة من علماء الكلام المسلمين ضد حجة الإجماع التي لها ما يوازيها عند مفكرين غربيين مثل الفرنسي ممثل حركة التنوير بيار بايل (1647 ـــ 1706) الذي اعترضته هو نفسه هذه المسألة، وأجاب نافياً أن يكون إجماع الأكثرية هو منهج صحيح للتقرير في القضايا الدينية.
يناقش صاحب «نيتشه، هايدغر، فوكو: تفكيك ونقد» مسألة النبوة على أساس بطلانها وعدم مشروعيتها. يقول: «كل العقول المتنورة تحدس بمفردها هذا الاعتراض المبدئي ضد الوحي، إلاّ مؤمني الأديان مكثوا في عمائهم أمام هذه البديهية التي عبر عنها دولباخ وقبله بألف سنة الرازي الذي سأل أهل الإسلام: «من أين أوجبتم أنّ الله اختص قوماً بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس، وجعلهم أدلة لهم، وأحوج الناس إليهم؟ ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يختار لهم ذلك، ويعلي بعضهم على بعض، ويؤكد بينهم العداوات، ويكثر المحاربات، ويهلك بذلك الناس؟».
يرفض المزوغي المعجزات والخوارق التي تتحدث عنها الأديان «لأنها تخرق عقولنا وتجرنا رأساً إلى الجنون. نحن نحتمي بالحس السليم وبالطبيعة التي لا تتبدل مهما كانت القوة المزعومة». يجادل ما يسميه «حروب الأنبياء» كما صورتها الكتب المقدسة، خصوصاً العهد القديم الذي ينم عن عنف مقدس متمادٍ. يستحضر تأويلات أغسطينوس (354 ـــ 430) الذي أحرجته اعتراضات الغنوصيين ضد لا أخلاقية أنبياء العهد القديم، ووحشية حروب الإبادات التي ارتُكبت في سبيل يهوه، إذ قدم مقاربة رمزية لـ «تبرير الأنبياء وإنقاذ قدسية الكتاب».
بعد مطالعة مستفيضة للتصورات التي وضعتها الأديان حول الله، يتابع قراءته للنصوص الدينية من دون استثناء، محاولاً مقاربتها من زوايا عدة، لا سيما ما أنتجه التاريخ الديني من إكراهات وحروب وإبادات سواء باسم المسيحية أو اليهودية أو الإسلام.
يدحض المقولات التي قدمها بعض الفلاسفة الغربيين والمسلمين حول شقاء الإنسان وتعاسته من دون الله، مركزاً اهتمامه على باسكال الذي وصفه فولتير «بكاره البشر العظيم». لا يعمل المزوغي على تشريح رهان باسكال حول اثبات وجود الله. يكتفي بمعاينة رؤيته حول مركزية الله في حياة الإنسان. كان بمقدوره الافادة من كتاب عالم البيولوجيا البريطاني ريتشارد دوكينز «وهم الاله» (1941) الذي انتقد هذا الرهان. وهذا ما فعله أيضاً مع الأدلة الخمسة التي عرضها اللاهوتي توما الأكويني (1225 ـــ 1274).
يقارب المزوغي خلاصات الفلاسفة في الغرب حول الألوهية ويتطرق إلى تخريجات فولتير وسبينوزا وديكارت... يعرج على كروتشي ويجادله في مقولته حول أنّ الفيلسوف الحق لا ينفي وجود الله. وبعد تحليل آرائه عن طبيعة الدين ومصيره، يتبين له أنه أقرب إلى الوضعيين الذين يعارضهم فقط باللفظ ولكنه يتقاسم معهم اللامبالاة تجاه القيم الدينية. ويستعين الكاتب بالبراهين الستة التي وضعها أندريه كونت سبونفيل (1952) التي برهن على عدم وجود الله. يخلص الفيلسوف الفرنسي إلى أن كل الطرق العقلية تقود إلى الإلحاد ونفي وجود الله من دون تردد ولا خوف ولا حزن.
«تحقيق ما للإلحاد من مقولة» يعالج الكثير من النظريات الفلسفية الغربية والعربية حول وجود الله ونفيه، وقد طغت عليه القراءة النقدية للنصوص المقدسة. الكتاب خطوة تأليفية جريئة تتقاطع مع زمن عربي تراجع فيه نقد الفكر الديني.