عندما نشر جون لوكاريه رواية «الطبّالة الصغيرة» The Little Drummer Girl عام 1983، عدّها كثيرون تجربة أدبيّة جريئة لسيد أدب الجاسوسيّة الإنكليزي (انظر «الأخبار» 15/12/2020). فهي أوّل (وآخر) رواية له بطلتها الرئيسة امرأة بعدما كانت النساء دائماً في أعماله الأشهر، التي كرّست مكانته، مجرّد كومبارس ومشاريع خيانة وشخصيّات ثنائيّة الأبعاد. أيضاً كانت «الطبالة الصغيرة» أولى محاولاته للتفلّت من صندوق أدب الحرب الباردة الذي وجد نفسه مسجوناً داخله طوال الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي. أما الأهم ـــ وهو ما يعنينا اليوم كجمهور عربي ـــ فإنّها بمثابة تجربة مثيرة للاهتمام حول رؤية بعيون أوروبيّة للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، ولا سيّما في ساحة أوروبا، أجواء ما بعد عمليّة ميونيخ 1972 (عملية احتجاز رهائن إسرائيليين أثناء دورة الأولمبياد الصيفية المقامة في ألمانيا من 5 إلى 6 أيلول/ سبتمبر سنة 1972 نفّذتها مجموعة فدائيّة فلسطينية من «منظمة أيلول الأسود» بهدف إطلاق أسرى في سجون إسرائيلية وعربيّة). وقد اعتبرها بعضهم وقتها قاسية على الجانب الإسرائيلي وتمنح الفلسطينيين مكانة قريبة للبشر في إطار السرد الخياليّ، وتعرّض لوكاريه من ورائها لانتقادات نقّاد يمينيين ومتصهينين. وللحقيقة، فإن «الطبّالة الصغيرة» ـــ والاسم تلاعب على شخصيّة الفتى الطبّال الصغير في إحدى أشهر أغنيّات أعياد ميلاد المسيح ــــ متقدّمة بشأن صيغة تصوير الفلسطينيّ أدبيّاً وموضعته معادلاً أخلاقياً (في سوئه) للإسرائيلي، والحيرة الأوروبيّة ـــ فلسفيّاً على الأقل ـــ في التعامل مع هذين الشعبين الممسكين بخناق بعضهما، وذلك بالطبع دائماً مقارنةً بالصّفة الغالبة على ما يُسمح بنشره في الفضاء الأنغلوفوني المنحاز بلا تحفّظ للسرديّة العبرية لأسباب تاريخيّة وثقافيّة وسياسيّة متشابكة ومتراكمة. وهي لذلك تحسب له في رصيد الشجاعة الأدبيّة لكاتب يعتبره البريطانيّون أيقونة وطنيّة ويتوقعون منه دائماً أن يكون في مربّعهم بكل قناعاتهم الموهومة والمصنّعة. تعرّض لوكاريه للمقاطعة والنقد اللاذع كلّما حاول الخروج من ذلك المربّع. ترصد الرواية أيضاً على مستوى ما تصاعد النضج الفكري الذي وصل إليه لوكاريه بعد سنوات خدمته الطويلة في المخابرات البريطانيّة وتجربته الروائيّة الفذّة بعدها التي قدّم من خلالها نموذجاً أكثر واقعيّة عن الصراعات الاستخباراتية بين الشرق والغرب مقارنةً بهراء قصص جيمس بوند وبقيّة طقم الجواسيس المثاليين، ومن ثمّ صَدْمته لاحقاً من الدّور القذر الذي لعبته استخبارات بلاده في تلفيق أسطورة أسلحة الدمار الشامل لتبرير استباحة العراق عام 2003.
مع كل هذه «الأسباب المخفّفة»، فإنّ فتاة لوكاريه الطبّالة الصغيرة لا تخرج في النهاية عن الإطار الكلّي السمج والمزعج والتنميط التقليدي الذي يُطعم للمواطنين الأوروبيين عن الانتصار الإسرائيليّ الحتميّ مهما فعل الفلسطينيون (كأننا نشاهد نسخة أولى من مسلسل «فوضى» العبري بطبعة إنكليزيّة)، وأن الإسرائيلي على سوئه يبقى أقل تدنياً أخلاقيّاً من الفلسطيني (المجرم الذي يستهدف المدنيين فيما الإسرائيلي يطارد حصراً القتلة). إن الهولوكوست مبرّر كاف لمنح الكيان الاستيطانيّ شرعيّة الوجود على أرض الغير، كما تبرئة الطرف الأوروبي لدرجة السذاجة من تعقيدات الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي (والكيان العبري فكرة وواقعاً وكتلة استيطانيّة بشريّة أصلاً مشروع أوروبي محض).
فَهْمُ هذا السياق التاريخي / الأدبي لـ «الطبّالة الصغيرة» لا بدّ منه للتعاطي الفاعل مع السلسلة القصيرة (6 حلقات قدّمها المخرج الكوريّ (الجنوبيّ) بارك تشان-ووك بداية على تلفزيون «بي. بي. سي» (2018) وتوفرها الآن منصة STARZ الرقميّة (يمكن الاشتراك بها عبر «أمازون برايم فيديو» و«أبل بلس»).
الفيلم والمسلسل والرواية تفشل في تجاوز سقوف الممنوع سياسياً تجاه أي عمل غربيّ يقترب من القضيّة الفلسطينية


تشان-ووك معروف بين عشاق السينما بالجمال البصري الوحشي لصورته واهتمامه المرضيّ بالتفاصيل، فلا يكاد يترك شيئاً للمصادفة. إنه كما «جوهرجيّ» محترف تحوّل إلى صانع أفلام أنيق وحاسم من دون أن يكون ذلك مطلقاً على حساب شخصيات أعماله. أمر يجعله مرشحاً مثاليّاً لتقديم روايات لوكاريه ـــ المهووس بدوره بالتفاصيل ـــ إلى الشاشة الصغيرة. وبالفعل، فإن معالجة تشان-ووك لأحداث «الطبّالة الصغيرة» تبدو أقرب إلى مائدة بصريّة خارقة تضفي مثاليّة كلاسيكيّة خلابة على أجواء السبعينيّات صُوّرت بين لندن وأثينا وبراغ: السيارات، والعمارة وقطع الأثاث والأزياء وتسريحات الشعر والتعرّي والنّظارات وأجهزة التسجيل والهواتف القديمة. ويضيف حضور وأداء ممثليه الوسيمين وممثلاته المثيرات (ومنهم أميركيّون وبريطانيّون وعرب: أمير خوري في دور الفلسطيني ميشيل وإسرائيليون) مزيداً من الألق على تلك المائدة، كما يمنحه تلاعب لوكاريه بتجربة التقاطع بين تمثيل التمثيل (حيث البطلة تلعب دور ممثلة) وتمثيل تمثيل التمثيل (والبطلة تجرب دورها في تمثيل شخصيتها كجاسوسة) والحقيقة فضاء مختبر فنّ تجريبي. لكنّه مع ذلك، وبسبب وفائه (الأعمى) للنص الأدبيّ، وتعامله الحياديّ كأجنبي غير معنيّ بالمضمون السياسيّ للقصّة، فقد فشل في تقديم مقاربة أعمق من رؤية لوكاريه لمسألة شديدة التعقيد وحمّالة أوجه كالصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، واضطر أحياناً لملء نموذج الست حلقات المناسب للستريمنغ بتطويل ــ ولا سيّما في الحلقات الثلاث الأولى ـــ يدفع للملل على غير المتوقع من مسلسل جاسوسيّة ومطاردات. ولذا جاءت قراءته للرّواية ملهمة بصريّاً حتماً وغير مقنعة فلسفيّاً، وبطيئة دراميّاً في آن. تلعب الممثلة الموهوبة فلورنس بو دور تشارلي روس، ممثلة بريطانيّة شابّة في بدايات مهنتها المسرحيّة في لندن، تمتلك ميولاً يساريّة ساذجة تجعلها تتعاطف بوهيميّاً مع الراديكاليين المناهضين للإمبرياليّة. وهي لذلك تحظى باهتمام جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الذي يرى فيها إضافة إلى تعطّشها بحكم المهنة لرضى الآخرين، خامةً مثاليةً لصنع عميلة تخترق ـ في دور عشيقة ــ خليّة فلسطينيّة تقوم بتنفيذ عمليّات تفجير واغتيالات ضد إسرائيليين في أوروبا. تجري أحداث الرواية في عام 1979 وتتدحرج أحداثها بين بريطانيا والشرق الأوسط وأوروبا بداية من بون عاصمة ألمانيا الغربية مع قنبلة تنفجر في منزل ملحق دبلوماسيّ إسرائيلي نجا بالمصادفة، لكنّه خسر ابنه البالغ ثماني سنوات. أوصلت القنبلة إلى المنزل المستهدف شقراء سويديّة حسناء تعمل مع خليّة ثورية يديرها فلسطيني لامع ومراوغ يدعى خليل يصفه ضابط موساد بـ «موتزارت القنابل». ويقرر مارتن كورتز - رئيس فريق خاص من الموساد الإسرائيلي مكلّف بالعثور على خليل وتحييده - أنه من الضروري محاربة النّار بالنار عبر تجنيد امرأة شابة جذّابة تتولى إغراء خليل إلى سرير موته. كورتز (يلعب الدور باقتدار مايكل شانون) هو إسرائيلي ليبرالي يمارس القتل بغرض خلق الظروف المناسبة للحل السلمي في الشرق الأوسط، وشرعيته في الرّواية يكسبها – وفق التنميط الغربي المعتاد - بوصفه أحد الناجين من الهولوكوست مع ذكريات رحلة شتوية صعبة في صندوق شاحنة ومشهد والدته تمضي إلى حتفها على يد النازي.
يقوم عميل إسرائيلي غامض يُدعى غادي بيكر (يلعب دوره أليكسندر سكارسغارد) بإثارة اهتمام روس ويدخل معها في علاقة إعجاب متوترة خلال رحلة إلى أثينا متلاعباً بتأرجحها بين الهشاشة والتبجح، ويشرع في إغوائها أثناء جولة حالمة في جوار الأكروبوليس بهدف تجنيدها للعمليّة.
كجاسوسة، تخوض روس تجربة سايكولوجيّة مشوّقة ومنهكة في آن تعبر خلالها بحر تناقضات صارخة تعيشها خلال فترة أطول بكثير من أيّ عرض مسرحيّ شاركت به في لندن: هل يمكن للمرء أن ينحرف أيديولوجيّاً من النقيض إلى النقيض ومقابل ماذا؟ (نظريّة لوكاريه في كلّ رواياته أنّك تصبح جاسوساً بسبب شيء ما في ماضيك). هل يمكن للمرء أن يلعب دوراً قذراً من أجل «الخير» كما قدّم له؟ وهل يمكن تبرير الكذب والتعذيب والقتل لتحقيق المصلحة العامة؟ وهل يمكن تمثيل العشق المشتعل من دون أن يهوي المرء في بحر الغرام؟ يتولى كورتز ـــ كما لو أنّه مخرج لمسرحيّة لا تنتهي وبيكر كما لو أنّه كاتب النّص ــ عمليّة طمس الخطوط الفاصلة بين شخصية النجمة روس الحقيقية وشخصية المرأة العاشقة التي ستتسلل داخل الخليّة الفلسطينية، فيتشابك في قلبها الخيال بالواقع ويصبحان بشكل ما واحداً. وهي لذلك تفقد براءتها وتبدأ بالتعامل مع الجميع على مبدأ الاحتمالات المفتوحة، وكل الإشارات تعني شيئاً ما. لكن العمليّة الملتوية والشدّ العصبي أثناء لعب مستويات التمثيل المتراكبة وتنازع المشاعر وتناقضها تنتهي ـــ بالتأكيد ينتصر الموساد كما يفترض دائماً، ولا مفاجآت هنا ــ إلى أن تُقتل روحها وإن نجت بجسدها.
«الطبّالة الصغيرة» كانت قُدّمت في عام 1984 كفيلم سينمائيّ من إخراج جورج روي هيل وبطولة ديان كياتون. وبالمقارنة مع «الطبالة الصغيرة» المسلسل، يبدو حجم الحكاية أكثر مناسبة للفيلم، ومعظم روايات لوكاريه كذلك، فيما يتفوّق المسلسل بصرياً. على أن الفيلم والمسلسل والرواية جميعاً تفشل في تجاوز سقوف الممنوع سياسياً، وتعجز عن إثارة أي جدلٍ حقيقي بأبعد مما قد يدور في ذهن ممثلة حسناء ساذجة. هي ذات السقوف التي ما زالت تحكم حتى اللحظة أي عمل غربيّ يقترب من موضوع القضيّة الفلسطينية. اطمئن يا سيّد لوكاريه، لم يتغيّر شيء منذ أيّام شبابك.

* The Little Drummer Girl متوافر على منصة STARZ الرقميّة (يمكن الاشتراك بها عبر «أمازون برايم فيديو» و«أبل بلس»)