تتلاطم المدينة وتتخبّط في لوحة هلا عز الدين. يتشقّق المشهد المَديني على الكانفاس، لكنه تشقّق سابق لانفجار الرابع من آب. قد يعطينا هذا لمحة عن نوع التضارب في أعمالها، والمستمدّ من العلاقة «البديهية» مع بيروت، ومن تناقضاتها المخبّأة والظاهرة. رغم أن الفنانة اللبنانية تبحث عن الضوء في معرضها الفردي الثاني «بحثاً عن الضوء»، فإن هذا البحث التقني الذي يظهر في انفتاح اللوحة على ألوان أكثر إشراقاً، يبدو سعياً للقبض على ضوء آخر قد لا نتمكّن من رؤيته، لكن يمكننا العثور عليه في نظرات شخوصها وتطلّعها إلى شيء ما، أو في لهاث المشهد خلف مساحة يستكين فيها في النهاية.
«جحيم» (أكريليك على كانفاس - 130×180 سنتم - 2019)

في معرضها التشكيلي الجديد في غاليري «أجيال»، تواصل عز الدين رسم الوجوه والأمكنة من خلال 18 لوحة بالأكريليك (معظم اللوحات)، والزيت، والرصاص. الثيمات نفسها ما زالت تخيّم على أعمالها منذ معرضها الأوّل Looming Landscapes قبل ثلاث سنوات، ولو أنها تذهب قدماً في تثبيت أسلوبها الفني وتطويره. يتضمّن المعرض لوحات تنقسم بين المشاهد المدينية، والطبيعية أحياناً وبين بورتريهات اختارتها الفنانة لوجوه التقت بأصحابها في الشارع. بعدما رسمت اللاجئين السوريين الأطفال في السابق، تذهب هذه المرّة إلى وجوه قد تضيع في المدينة وازدحامها، لكنها اختارتها لكي تحتلّ لوحاتها الكبيرة. سنعرف أن الناس والمدينة يتماهيان، لكننا لن نعرف من يسكن الآخر، أهي المدينة التي تتفرّع من وجوه أبنائها على شكل ندوب؟ ما نستطيع معرفته هو أنهما يبدوان امتداداً لبعضهما، وأن وجوه المجهولين، هي وجوه السكان جميعاً في امّحائها. ذلك أن رسم الوجوه وتلوينها يخفيان ملامحها وسماتها العمرية والجندرية، بهذا يبدو كمعادل معنوي لغيابها الواقعي. ولعلّ لوحة «قبل وبعد الرابع من آب» هي بمثابة دراسة تقنية لونية لأسلوبها في رسم الوجوه. وفيها لن نقع على مشهد مباشر لتفجير المرفأ.
لوحة «قبل وبعد الرابع من آب» هي بمثابة دراسة تقنية لأسلوبها في رسم الوجوه

اللوحة المنقسمة إلى شطرين، تحمل وجهين للفتاة نفسها. من خلال تدرجات الزهري والأحمر، سنرى عن قرب كيف تضفي إليها ندوبها، وتخفي ملامحها بلطخات داكنة، عبر لعبة الضوء والظلال، والمشرق والداكن. بالمقارنة مع معرضها السابق، تتوسّع ضرباتها على الكانفاس، وتبلغ مستوى تقنياً عالياً في استخدام الألوان واشتقاقها. إذ تستخرج من هذا المزج الكثيف والصاخب مشاهدها. اللوحة لا تصل إلى مشهدها بيسر، بل تخوض اشتباكاً تقنياً تفرضه بيروت نفسها. إنها، تنحو أكثر نحو التجريد والتجريب أيضاً في الألوان وفي الضربات. غير أن التجريد هنا ليس تجريداً خطوطياً بارداً، بل ينمّ عن شحنات انفعاليّة صارخة تظهر وتتكتّل أيضاً في مواضع معيّنة من اللوحة وتركيبتها. هكذا تبلغ الطبقات اللونية والضربات تكثيفاً ظاهراً في بعض المساحات، فيما تترك لبعض الضربات في مساحات أخرى في اللوحة أن تنزلق بطريقة توحي بأنها عبثية إلى أن تتلاشى كلياً أحياناً. تمرّر عز الدين لوحتها بكلّ الصراعات كما لو أنها تلطّخ وجه المدينة. يمكننا الركون إلى هذه المعادلة: أحياناً لا نصل إلى المدينة، وأكثر الأوقات لا تصل بنا المدينة إلى مكان محدّد. كذلك الريشة والضربات، تبدو كما لو أنّها تتقفّى أثر المكان، وتستخلص منها عبر الألوان تلك المساحة المعنوية القلقة المخبّأة. يظهر هذا التشابك اللوني والكتلي كمعادل لترنّح بيروت واهتزازها. هذا ما تبلغه اللوحة من خلال ألوان تتجرّأ على إدخال الزهري والأصفر والبرتقالي والأخضر إلى مساحة اللوحة، فيما استسلمت لوحتها في السابق إلى الألوان الداكنة ومشتقات الرمادي والنبيذي القاتم. غير أن هذا الإشعاع الظاهر لن يقدّم مساحة آمنة. أحياناً ينبض الوجه بضربات صفراء طالعة من خلفية داكنة. هكذا هو الضوء في لوحتها. ضوء لا يكتمل ولا يثبت تماماً، بل يبقى هشاً، ما يجعل من عنوان المعرض سؤالاً أكثر مما هو جملة مؤكّدة، خصوصاً أن سعي النور إلى الظهور لا يهدأ إطلاقاً.
لا تسعى إلى القبض على المشهد بأكمله. ترجع المدينة إلى ما وراء اللوحة أو مزهرية الورد، أو إلى خطوط وأبنية ضئيلة تتبدّى في خلفية الوجوه كطيف فحسب. هناك بعض المشاهد التي تتكرّر في محيط برج المرّ، نافذة عز الدين على بيروت. سنقع على تناقضات تصبّ في الخيارات الجمالية في اللوحة، في تعارك مساحاتها الخضراء مع الأبنية. الوجوه الطفولية المثقلة. اشتباك بين الأخضر والعمران، بين الباطون والحديد، بين الخطوط المستقيمة والكتل المتسيّبة، وفي أحمر الزهور يشعّ من خلفية داكنة. أما الأزرق فيتجلّى في اللوحة كضوء، وكسماء، إلا أنه أزرق البحر في كلّ الحالات، امتداد طبيعي لبيروت، ذلك الزائر الذي لا يتزحزح عن أفق المشهد.

معرض «بحثاً عن الضوء» لهلا عز الدين: حتى يوم غدٍ السبت 9 كانون الثاني (يناير) - «غاليري أجيال» (الحمرا _ بيروت). للاستعلام: 01/345213