في معرضه الجديد «أطياف الواقع» في «غاليري أجيال»، يستمر أسامة بعلبكي (1978) في انشغاله بالتقاط فكرة العزلة، عزلة الإنسان وعزلة الطبيعة. في معارضه السابقة، استثمر بورتريهاته الذاتية لإنجاز حالات بصرية حميمة وخافتة تحدث داخل حياة معاصرة وطاحنة، وإلى جانب ذلك، ظهرت لاحقاً أعمال أخرى تترجم نوعاً آخر من العزلة يمكن تسميته بعزلة الخلاءات الطبيعية، وليس عزلة الطبيعة تحديداً، فالرسام اللبناني الذي يُبدي انحيازاً واضحاً إلى «فن اللوحة» التقليدية، يرحِّل تقنيات هذه اللوحة إلى تيارات وتجارب الفن الراهنة، والتي خرج أغلبها عن اللوحة بمفهومها الانطباعي والتعبيري المعروف. ما نراه هو لوحة لا تزال تحتفظ بشروط اللوحة، ولكنها في الوقت نفسه منخرطة في السياق الراهن والمعولم للفن، وتفعل ذلك من خلال «نقل» الممارسات المعاصرة إلى اللوحة، أو بتعبير أدق، نقل خلاصات ومذاقات هذه الممارسات فقط، وهو ما يمنح أعمال بعلبكي روحية حديثة ومعاصرة مع تمسّكها بأصول اللوحة.
تحضر لوحة «إلى بودلير» مع سهم ماوس الكومبيوتر على جبين صاحب «أزهار الشر»

لا يسجِّل أسامة بعلبكي عودة رخوة ورومانسية إلى الطبيعة. وحين يرسم أعمالاً تحتفي بالخلاء الطلق، يتعمّد أن لا تكون شاغرة تماماً، بل تحضر فيها مواد وعناصر وإنشاءات من خارج الطبيعة المفتوحة، فنرى مرتفعات حرجية مخترقة بأعمدة وتمديدات التوتر العالي، أو نرى سيارة قديمة مركونة في طريق جبلية أو ريفية، أو نرى رافعة عملاقة ترتفع فوق مشهد يُفترض أنه طبيعي. وفي المعرض الجديد، هناك إضافات على هذه المشهديات، فنرى في إحدى اللوحات الخلاء الريفي أو الطبيعي في ظلام ليل خافت، ثم نرى في لوحة أخرى الليل نفسه فوق مدينة شبحية، وفي لوحة ثالثة، يظهر مشهد بيروتي شهير مأخوذ من أسفل شاطئ الروشة، وتظهر في أعلاه عمارات الكورنيش البحري الشاهقة. كأن أسامة بعلبكي ميّال إلى الطبيعة المشروطة بأن تكون مجاورة للمدن، أو متداخلة معها، أو واقعة ضمن نطاق التعدّي على خلائها وأبديتها الشاغرة. وهذا جزءٌ من طموح الرسام في خلط مفهوم اللوحة مع ممارسات فنية أخرى كالتجهيز والبرفورمانس والفيديو آرت وغيرها. الطموح أن تكون اللوحة حاضرة بهوية تقليدية واضحة، مع انحيازات متعددة إلى الفنون المعاصرة من دون التخلي كلياً عن هوية اللوحة. رهان أسامة بعلبكي وقوة تجربته موجودان في هذه الخلطة التي تُبقيه على صلة متينة بالرسم، وتخلق له علاقات جيدة مع ما يحدث في تجارب مجايليه وتجارب شبابية أخرى تتبنى (بسرعة) شعارات وممارسات معاصرة.
داخل هذه الخلطة، تحضر لوحة تحية «إلى بودلير» التي يُعيد فيها رسم الصورة الشهيرة التي التقطها إيتيان كارجا (1828- 1906) للشاعر الفرنسي، فهي تبدو للوهلة الأولى نسخة مطابقة لها لولا سهم ماوس الكومبيوتر الذي يظهر على جبين صاحب «أزهار الشر»، ونصف الزهرة الصفراء وراء رأسه. السهم يُحدِّث الصورة القديمة، ويوحي بأنها معروضة على شاشة أو منقولة عنها، وفي الحالتين، تبدو مخترقة برمز معاصر، وتشبه أي لوحة أخرى تظهر فيها الطبيعة وقد اقتحمتها أعمدة كهرباء أو كسارات معدنية ضخمة. ولكنها في الوقت نفسه، تشبه البورتريهات التي رأينا فيها الرسام ذاته (أو أحد موديلاته) في يوميات عزلته وانفراداته المزاجية المختلفة.
تجربة أسامة بعلبكي قريبة من الشعر اليومي أو قصيدة التفاصيل، ليس لأن نصوصاً ومقاطع من تأليفه تتداخلت مع لوحات معرضه «ظلال الوحشة» قبل عامين، بل لأن اللوحات ذاتها تحتفي بمزاج الكائن المعاصر، ويومياته المزاجية المتعددة، ولأن ذلك يحدث بنبرة خافتة وطفيفة تتناسب مع عزلة البورتريهات، وعزلة الخلاءات الطبيعية أيضاً.

* «أطياف الواقع: أسامة بعلبكي». حتى 6 شباط (فبراير) ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا). للاستعلام: 01/345213