حملت الناقدة خالدة سعيد إلى جانب تجربتها الأكاديمية تجربة عملية في المؤسّسات والنشاطات والمبادرات والمشاريع الثقافية. وهي منذ نصف قرن في حومة الفكر النقدي وشكلت مع أسعد رزوق وجبرا ابراهيم جبرا ما يمكن تسميته المواكبة النقدية لمشروع مجلة «شعر» في تجديد الشعر العربي الحديث، وأيضاً في مجلة «مواقف»، وطورت وعيها النقدي الإبداعي الشعري الحضاري إلى وعي اجتماعي وأخلاقي وتاريخي. وأقامت الجسور المتينة بين أشكال الوعي وأشكال التعبير. رصدت الظواهر والرموز الشعرية والثقافية وكتبت عنها بحبّ وعمق وتبيين. نحتت الطريق لقراءة شعراء مجلة «شعر» ولاحقاً شعراء الحداثة العربية. وعلّمتنا القراءة الهادئة العميقة. وغاصت في الكتب التي ترصد وتحلّل وتدقّق وتوثّق وتمرحل ويكون كلّ ذلك جزءاً من تجربة الكاتب أو الكاتبة نفسه. أصدرت عام 2012 «يوتيوبيا المدينة المثقفة» وهو كتاب نقيض لكلّ ما نعيشه في هذا الزمن المتهافت. وفي المعنى الذي يسبغ القيمة على الحياة. هذا الكتاب هو برأيي، حدث في سيرة الثقافة في المدينة والوطن، وتاريخ ثقافي لحداثة مدينة لم تفقد الكاتبة التواصل معها منذ أقامت فيها في عام 1956. استعادت المدينة من الذاكرة لترويها في كتابها. هذا الكتاب برأيي، هو طريق بحث عن الإنسان ومعاني حضوره في المكان. هو كتاب في الحب، والحب يعني المعرفة والمبادرة. هكذا أن تحب المدينة وتحب بيروت وتذوب في المكان كي تستلهمه وتستعيد الحلم وترتقي معه إلى نهضة مرتجاة. ولا عجب أن تهدي خالدة سعيد كتابها «إلى بيروت، في الأزمنة كلها» لأنّ قيمة الأزمنة في النهاية بما تحمل من قيم وأمثال وأحلام وأسئلة وإنجازات ومواقف. تنتمي خالدة سعيد إلى ثقافة الأسئلة. ولعل السؤال الأقوى الذي تطرحه دائماً هو: كيف يمكن أن نستعيد روح النهضة؟ قضية الثقافة، قضية الإنسان؟ ما هي المؤسسات التي شهدت للثقافة وشقّت طريق التغيير وخلقت حساسية وحيوية تجدديّة في المجتمع؟ كيف يصنع الحدث الثقافي وكيف يُبنى العمل الثقافي بمعايير رسالية متجدّدة؟ وكيف يتجسّد الشغف بإرادة لا تلين لتحقيق ما يشبه المستحيل؟ كيف نفتح الذهن على فتنة الواقع لا لأجل قبوله بل لتجاوزه وتغييره؟ كيف نعيش الحاضر بقوة الماضي وحلم المستقبل؟ كيف تصبح الثقافة المثل الأعلى في المجتمع؟ كيف يصبح الشعر في معركة الوجود؟ (عنوان أحد كتبها). رأت خالدة سعيد الكتابة الإبداعية كحركة بين الوعي بما هو معرفة متحصّلة وأجهزة تعرّف وذاكرة، وبين الحلم بما هو تطلّع ونزوع وكشف واستشراف، يرتفع بالمعرفة إلى ممكنها ومرتجاها. ربطت الكتابة بالشجاعة والحق والمجاهرة بالموقف والمسؤولية وكفعل صيانة للمستقبل.
تسأل خالدة سعيد: كيف حصلت القطيعة بين الثقافة والسياسة؟ وكيف انغلقت المؤسسات السياسية والإدارية على الثقافة والفكر النقدي؟ وغابت الحوارات في المجتمع، وغابت العقلانية والتواصل، وغاب الإبداع، وغابت المعايير والمفاهيم، وتحولت الحياة إلى مجرّد خواء هزيل.
كيف يمكن أن يكتب المرء غير يائس؟ كيف تعود بيروت مختبراً للضمير والأحلام والمشاريع والمبادرات ومساحة للتلاقي؟ كيف يعود تيار الحداثة ليعصف في المجتمع، مستنداً إلى الديمقراطية والمعرفة والتربية الإبداعية؟ الجواب عن هذه الاسئلة كلّها في قوة المجتمع المدني إذا أراد. في الثقافة والديمقراطية والهوية الحضارية. وفي العمل لأجل مدينة تنهض على الفكر والقانون والحياة في الإبداع، وفي الانتماء إلى الثقافة باعتبارها نهضة وسبيلاً للعقلنة وعملاً تأسيسيّاً لبناء الإنسان وبناء المجتمع وبناء الحضارة.
في علوها الثمانيني ولم تزل تكتب وتحلم وتصوب. أنجزت الجزء الثاني من كتاب «يوتيوبيا المدينة المثقفة» بعنوان «فضاءات» وتتناول فيه الشخصيات والرموز والأعلام التي صنعت نهضة بيروت وحداثتها. كما تعمل على كتاب حول القصة والرواية العربية، وكتاب آخر حول موسوعة النساء في العالم.
في 9 آب (أغسطس) 2014، كتبت خالدة سعيد شهادة عن الأمينة الاولى جولييت المير سعادة ووصفتها بأنها شهيدة المعنى. أرى أنّ خالدة سعيد في ما عملت وأنجزت في الثقافة العربية وحركة النقد هي شاهدة المعنى.

* ناشر وناقد لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا