1

خالدة سعيد رمز من رموز بُناة الحداثة في العالم العربي. وهي واحدة من النساء العربيات الرائدات، اللواتي بادرن بأخذ الكلام في الحياة الثقافية العامة، منذ العشرينيات من القرن العشرين، ابتداء من عائشة تيمور، هدى شعراوي، نبوية موسى، مي زيادة. نساء خرجن من البيت إلى الساحة العمومية، في أغلب البلاد العربية التي شهدت تحديث التعليم: كاتبات، فنانات، وناشطات حقوقيات. ومع امتداد الزمن، اتّسعت دائرة هؤلاء النساء، بأعمال تمثل، اليوم، تراثاً دمْغتُه الجرأة والإبداع. لخالدة سعيد وضعية خاصة، في هذا المسار الشديد الوعورة للمرأة العربية الحديثة، لأنها أصّلتْ رغبتها في استكشاف القصيدة العربية المعاصرة، منذ الخمسينيات. فهي ابنة عائلة سورية مثقفة، علمها أبوها، خليل صالح، (الذي أهدته كتابها «في البدء كان المثنّى») أنه «لا فضل لإنسان على إنسان بجنسه، بل بعلمه وأعماله». وهو الذي عرّفها إلى نساء كاتبات نهضويات. أختها الكبرى سنية صالح (1935 ـ 1985)، شاعرة وكانت متزوجة من محمد الماغوط. كانت اللحظة الثانية لخالدة، على طريق الثقافة والحرية الفكرية، لقاءها سنة 1950 في جامعة دمشق بأدونيس، الذي كان هو الآخر التحق في السنة ذاتها بالجامعة. ومعاً هاجرا من دمشق إلى بيروت، حيث تزوجا بتاريخ 26 آذار (مارس) 1954.



ثم جاءت لحظة الشروع في مغامرة الكتابة مع مجلة «شعر». في البداية، نشرت قراءات نقدية باسم مستعار هو خزامى صبري. كان ظهور أول مقالة لها في العدد الثالث من المجلة (صيف 1957) بقراءة لديوان نازك الملائكة «قرارة الموجة». واستمرّت في نشر دراسات نقدية بهذا الاسم المستعار حتى العدد الحادي عشر (صيف 1959) بدراسة عن ديوان محمد الماغوط «حزن في ضوء القمر». وفي العدد الموالي، الثاني عشر (خريف 1959) أعلنت عن اسمها الذي عُرفت به لاحقاً، خالدة سعيد، بدراسة عن كتاب «الأسطورة في الشعر المعاصر» لأسعد رزّوق. وظلت تنشر مقالاتها بالاسم ذاته حتى العدد التاسع عشر (صيف 1961) من «شعر»، تناولت فيه موضوع «بوادر الرفض في الشعر العربي الحديث».
هذه الدراسات الأولى هي التي أظنّ أنها تشكّل مادة كتابها الأول «البحث عن الجذور»، الصادر عن دار مجلة «شعر» سنة 1960. أغلّب الظن، هنا، لأني لم أطّلع على هذا الكتاب، الذي كان صدر وأنا كنت لا أزال تلميذاً في المدرسة الابتدائية، فيما مجلة «شعر» لم تصل، حسب علمي، إلى المغرب أول مرة إلا بعد 1968.
2

كانت خالدة متضامنة مع أدونيس ومحاورة جيّدة له في دواوينه الأولى وفي دراساته المنشورة في مجلة «شعر»، كما كانت قارئة لأهم الدواوين العربية الحديثة الصادرة في الخمسينيات. ورغم أني لم أطّلع مباشرة على كتاب «البحث عن الجذور»، فإنّ دراساتها النقدية المنشورة في المجلة دلّتني على معنى المغامرة التي انخرطت فيها مباشرة. كنت دائماً شغوفاً بتأمّل عنوان هذا الكتاب «البحث عن الجذور». أردّده في نفسي وأعيد. أتأمّل، لأنّ الدراسات التي كانت سائدة آنذاك، غالباً ما كانت تقف عند المسألة العروضية في الشعر الذي كان له اسم «الشعر الحر» مثلما كان له اسم «الشعر المعاصر». فتلك الدراسات كانت تبحث في الظاهر، أي فوق سطح تراب القصيدة الحديثة. إلا أن خالدة سعيد تجاوزت هذه الرؤية الاختزالية، القنوعة بما يظهر من القصيدة، واتجهت نحو الجذور. هي جذور مجهولة، كان الوصول إليها يتطلّب البحث. ذلك أن البحث يعني «طلب الشيء في التراب» كما جاء في «اللسان»، أي في الجذور الدفينة، المغمورة، البعيدة الغور. بهذا يكون عنوان الكتاب الأول لخالدة سعيد دعوة لمنهج هو الذي سيدُلّ على الطرق الألف لتلك القصيدة الحديثة التي كانت تخطو، آنذاك، خطواتها الأولى في أرض تقليدية، حتى من بين الذين كانوا يعتقدون أنهم حديثون.
تلك الجذور هي التي أشار إليها فؤاد رفقة، قارئ الكتاب في العدد الرابع عشر من مجلة «شعر» (ربيع 1960)، حيث كتب «الكشف عن التأثير الحضاري في الشعر، هو، إذن، البحث عن جذور الشعر». من هنا كانت عناية خالدة بـ«الصور النفسانية المتلاحقة». والجانب المغمور، في القراءة للقصيدة الحديثة، هو الذي جعل فواد رفقة يختتم مقالته بأن «هذا الكتاب يصلح لأن يكون قاعدة انطلاقية لنقد القصيدة العربية الحديثة». فؤاد رفقة كان ذا وعي نقدي عميق. نتأكد، اليوم، من ذلك، بعد مضيّ ستين سنة على قراءته. خالدة سارت فعلاً على طريق البحث في القصيدة العربية الحديثة، وهي تتبع إبدالاتها، بحساسية ثقافية عربية تفيد من حركة النقد الغربي، وبذكاء يجمع، في آن، بين القدرة على الإنصات للقصيدة وعلى التواضع أمامها. هكذا كانت خالدة سعيد فاتحة لقراءة جديدة للشعر الحديث مثلما كان أدونيس فاتحاً لأرض شعرية جديدة. من هنا يتضح لا التضامن فقط، بل التكامل والتفاعل بين خالدة وأدونيس.
3

استأنفت خالدة نشر مقالاتها مع العدد الأول من مجلة «مواقف»، الصادرة سنة 1968. مقالة قصيرة، عبارة عن بيان بعنوان «من قبل ومن بعد». بيان برائحة الثورة. ورد فيه ما كان أصبح مؤثراً في الحركة الثقافية العربية بعد نكسة 1967: «والشعر اليوم مؤهّل لأن يلعب دوراً روحياً لأنه ثورة وحركة». بهذه الدعوة الجموحة، الثورية، استحوذت عليّ أولُ دراسة قرأتها لها في العدد السابع من «مواقف» (السنة الثانية، كانون الثاني ـ شباط 1970) حول قصيدة أدونيس «هذا هو اسمي: إيقاع الشوق والتجاذب». كان أدونيس نشر القصيدة في العدد الرابع من المجلة (أيار ـ حزيران 1969). قصيدة تؤرّخ لمرحلة متوهّجة من الممارسة الشعرية لأدونيس، في أفق ما سماه لاحقاً «تأسيس كتابة جديدة» (العدد 15، أيار ـ حزيران 1971). تفاعلي مع دراسة خالدة سعيد جاء على إثر ما كانت أصبحت عليه اهتماماتي الشعرية والثقافية.


فأنا كنت زرت باريس في صيف 68 وعاينت جذوة ثورة ماي، رمز ثورة الشبيبة الفرنسية، وفي بداية 1969 كنت أصبحت منتبهاً إلى الحركة الثقافية والنقدية الفرنسية الجديدة. لذلك وجدت في دراستها ما يشجّع على المغامرة في الكشف عن فضاء القصيدة الحديثة، كما جسدتها قصيدة «هذا هو اسمي».
لا أشكّ أن هذه الدراسة كانت صادمة في زمنها، وهي لا تزال حتى اليوم تحمل طاقة الصدمة. إنها الدراسة التي أعادت خالدة نشرها في كتابها النقدي الثاني، الصادر سنة 1979 بعنوان «حركية الإبداع». في الكتاب ذاته، دراسات عن أنسي الحاج وبدر شاكر السياب. فأغلب الدارسات المنشورة فيه تخص القصيدة العربية الحديثة، مع مقالات تحيط بالمرحلة الحديثة من الحركة الشعرية العربية. عنوان هذا الكتاب يسير وفق نسق عنوان الكتاب الأول. أعني أن «حركية الإبداع» هي نفسها بحث في الجذور بلغة مختلفة، بما هي خصيصة حافظت عليها خالدة سعيد. وهو ما كنت أقدّره عالياً في كتاباتها وفي اختيارها الثقافي على امتداد السنوات.
4

في صيف 1979، سنة صدور الكتاب، كانت خالدة زارت المغرب، صحبة أدونيس ومحمود درويش وإلياس خوري، للمشاركة في أنشطة «موسم أصيلة الثقافي الدولي». وكان من حظ زوجتي أمامة وحظي أنهم فاجأونا بزيارة جماعية في شقّتنا بالمحمدية. خلال الزيارة، أهدتني خالدة نسخة من هذا الكتاب، الذي أحتفظ به كوسام يدل على النبالة الفكرية. تلك كانت انطلاقة تعارف بيننا عن قرب. ولا أنسى، هنا، تفضّلها باستضافتي على إثر الدعوة الكريمة التي وجّهها لي أدونيس لزيارة بيروت في الفترة ذاتها. تعارف أستحضره بالعرفان. فقد سُعدت دائماً بتقاسم الحديث معها حول الشأن الشعري وحول القضايا الثقافية في زمننا، مثلما كان حديثنا حميماً باستمرار عن الحياة الشخصية والعائلية، أو الحياة الاجتماعية والسياسية. وكنت أحسّ، في أحوال الحديث الشعري والثقافي، برغبتها الجامحة في ترسيخ ثقافة نقدية حديثة، لها المعرفة المتآخية بين الذات والآخر، كما لها التساؤل الذي لا يتوقف عن تجديد نفسه.
قبل هذا الكتاب، كنت قرأت «عصر السريالية»، الذي كان صدر سنة 1967 في بيروت عن «منشورات نزار قباني»، ووصل في السنة الموالية إلى المغرب. ولا شك أن تخصُّص والاس فاولي، الباحث الأميركي في الأدب الفرنسي، وميلها آنذاك إلى الحركة السريالية، على غرار جماعة مجلة «شعر»، هو ما شجعها على ترجمة الكتاب.
وعلمتني السنوات أنّ تعلّقَ خالدة بالشعر وبالحداثة الشعرية يتقاطع مع رؤيتها للمجتمع ومع زمن بيروت التي كانت تعيش فيها. أما المجتمع، فكانت حرية المرأة همّاً لا يفارق كتاباتها. وقد خصتها بدراسات توالت عبر سنوات، وجمعتها في كتاب له عنوان «في البدء كان المثنى». هو كتاب يهتدي بمنطق التكامل وليس التعارض بين المرأة والرجل. ذلك ما تعبّر عنه كلمة «المثنى» في العنوان. ففي مدخل هذا الكتاب الجريء، دراسة تأمّلية موسعة في العلاقة بين الرجل والمرأة، ومقاربة لتحكّم الرجل في المرأة والإصرار على إخضاعها لسلطته. تكتب خالدة: «لكن الصعب هو تحليل موقف الهيمنة والتملّك والقمع الذي يحضر غريزياً، عفوياً وثقافياً لدى المذكّر». ومن بين أهم الدراسات التي يتضمنها الكتاب تلك التي تحمل عنوان «المرأة العربية كائن بغيره لا بذاته»، وهي في الأصل محاضرة ألقتها سنة 1970 في دار «الفن والأدب» في بيروت. هذه الدراسة تتوازى، برأيي، مع ما كان أدونيس يكتبه آنذاك عن الشعر أو عن السلطة العربية إجمالاً. لكنها أيضاً تتقاطع مع ما كان يكتبه حليم بركات أو صادق جلال العظم. وهي تتجاوب مع أعمال كاتبات وفنانات عربيات، أمثال فاطمة المرنيسي، فدوى طوقان، أندريه شديد، ناديا تويني، سنية صالح، منى سعودي. بمعنى أن كتابات خالدة سعيد عن المرأة وعن العلاقة بين الرجل والمرأة كانت تندرج ضمن الحركية الثقافية النسوية، التي نشأت في السبعينيات، بطابعها اليساري، النقدي. وكتاباتها، مع كتابات سواها من النساء، نداءٌ لإعادة كتابة تاريخ الثقافة العربية الحديثة بصيغة المثنى، بعد أن احتكر كتابته المذكّر المفرد الذي يستبعد المرأة: كاتبة، فنانة، مناضلة، باحثة، مفكرة، مبدعة.
5

انشداد خالدة سعيد إلى التحديث تنعكس صياغته في الفعل المتواصل لديها من أجل التحرّر. فليس التحرّر ممكناً في تصورها بغير ثقافة متحرّرة من المغلق بكل ما يعنيه، ثقافياً، دينياً وأخلاقياً. بهذا نجدها تخصص لثقافة التحرّر كتابين: «يوتوبيا المدينة المثقفة»، الصادر سنة 2012. هو لبيروت وعن بيروت، المدينة التي كانت تنتمي إلى حياتها الثقافية نخبة من العرب الداعين إلى مكانة الثقافة في التحرر. في هذا الكتاب دراسات عن «الندوة اللبنانية»، المؤسسة التي اتسعت للإبداع والاختلاف، عن الفن الغنائي، ممثلاً بفن فيروز، المبدعة في حياة وعمل الفنان الحديث، عن مجلة «شعر» ومجلة «مواقف» و«دار الفن».


ويختتم الكتاب بأصداء الصداقة والمحبة لأسماء لبنانية كان لها في بيروت حياة من الإبداع والحوار. هو كتاب مديح لبيروت التي ستبقى شامخة بما أعطت للثقافة العربية من أفق الحرية وسعة الاختلاف وصلابة المقاومة.
أما الكتاب الثاني فهو عن «الحركة المسرحية في لبنان: 1960 ـ 1975، تجارب وأبعاد» الصادر سنة 1998. عمل موسوعي، رغم أن خالدة سعيد ترى أن ما كانت تتغيّاه هو أملها في أن يقدم «إضاءة متماسكة لركائز تلك الحقبة ويؤسّس لمرجع أوّلي حولها يشجع الباحثين على وضع دراسات مقبلة». أهمية هذا العمل الكبير، هي أنه يحافظ على ذاكرة «المسرح العربي» في لبنان، حيث «الحركة المسرحية اللبنانية مغامرة انطلقت، كما كتبت في كلمة الإهداء سعاد نجار، ذخيرتُها الإيمان والمواهب، طريقُها البحث والرؤى والعلوّ على الذات، قانونُها العطاء». حركة تم تدميرها لكنها تظل حاضرة بقيمة ما أبدعته وقدمته، وحاضرة بهذا المؤلف الموسوعي الذي أنجزته خالدة سعيدة بمحبة عالية للإبداع المسرحي والمبدعين المسرحيين اللبنانيين.
6

وكما ابتدأت كتاباتها النقدية عن الشعر العربي الحديث، فهي نشرت سنة 2014 كتاباً فريداً في النقد الشعري العربي بعنوان «فيض المعنى». في هذا الكتاب بحث متجدّد، كما ذكرت من قبل، عن الجذور، الذي يظل بحثاً مكتوباً بمداد المستقبل. كتاب يتناول أعمال شعراء عرب حديثين، من أجيال وجغرافيات شعرية مختلفة. في هذا الكتاب رؤية متفحّصة للحركة الشعرية العربية الحديثة، عبر ما يزيد على خمسين سنة، وهو ما لا نجد أيَّ ناقد عربي آخر أقدم عليه. ثم إن قيمة القراءات، هنا، ليست في عدد الشعراء وكتاباتهم المتباينة فقط، بل في القدرة أيضاً على تتبع هذه الحركة على امتداد عقود، بنباهة وتعاطف. وإذا كان هذا الكتاب بحثاً عن الجذور، بصيغة أخرى هي صيغة الزمن المعرفي المتبدل، فهو، كما كتبت خالدة في «بيان القراءة الناقصة»: «يتخيّر الرحيل مع الأثر الشعري، مصغياً بمجموع معارفه وخبراته، متلمّساً ظلالاً من كشوف النص ورؤاه، مستجيباً لدعواته وإيحاءاته».
كتاباتها عن المرأة تندرج ضمن الحركية الثقافية النسوية، التي نشأت في السبعينيات، بطابعها اليساري، النقدي


هو بيان جديد لقراءة جديدة تستثمر معارف وخبرات تراكمت وتفاعلت في ما بينها، عبر هذه العقود التي مر بها الشعر العربي الحديث ومرت بها ثقافة الناقدة. كتاب هو أيقونة من أيقونات النقد الشعري في العالم العربي. ففي «البيان» ما له من أقصى الدلالات على معرفة مترسخة بقدر ما هي متخلصة من دوغمائيات (أو حذلقات) الكتابات النقدية السائدة عن الشعر العربي الحديث. وما يقدمه للقارئ المحب للشعر أو للقارئ المختص، يجمع بين التأمل والمتعة، بين الإنصات والحوار، بين الشرح والتأويل. وهو، لهذا كله، يجسّد «بيان القراءة الناقصة»، التي تدعو للقراءة وإعادة القراءة، بدون حدّ يقف عنده الناقد وهو يرحل في جغرافيات شعرية، تستقبلها خالدة سعيد بدهشة المغامرة ورحابة الاختلاف.
ومن أجمل الدراسات التي استوقفتني كثيراً في هذا الكتاب، ما خصّت به أختها سنية صالح، الشاعرة التي قرئ شعرها «على نطاق ضيق»، لكنها أنصتت إليها، إلى حياتها، إلى الشعر، إلى الولع بالأخوة الإبداعية. سنية «من هؤلاء الشعراء الذين الشعر عندهم، كالأمومة، فعل وجود». قراءة تحمل الكثير من الوفاء والكثير من العطش لكتابة، تعرف أنها «ناقصة». وما تكتبه عنها، في هذا الكتاب، يتمم ويوسع ما كتبته عنها من قبل في كتاب «في البدء كان المثنى»، إذ تبدو متتبّعة لخصائص السلوك الشخصي لسنية الذي يستكشف المشترك بين الشقيقتين. «فهي آمنت بالشعر وحده، كقوة محرّرة وبانية للعالم».

7

ما نعرفه لها أيضاً «الاستعارة الكبرى» (في شعرية المسرح)، الصادر سنة 2007. في هذا الكتاب توسع خالدة سعيد معنى الشعرية، وفقاً لما اشتغلت عليه الحركة النقدية البنيوية، في حقل النثر إجمالاً. كما نعرف لها مؤلفات مشتركة مع أدونيس عن ثقافة النهضة العربية، وترجمة أعمال لكل من إدغار آلن بّو وفوكنر وكابوته. لكن ما لا نعرفه عنها أكثر مما نعرف، ويحتاج إلى استقصاء وتوثيق.
تعلّقها بالشعر وبالحداثة يتقاطع مع رؤيتها للمجتمع ومع زمن بيروت التي كانت تعيش فيها


خالدة سعيد، كما عرفتها، مثقفة عميقة، ذات تكوين جامعي وحساسية فنية، مواكبة للجديد من المعارف النقدية والفكرية والفنية، معتنية بواجبات الزوجة والأم وربّة البيت، ساهرة على تربية ابنتيها أرواد ونينار. وهي، في كل حديث معها، متواضعة، تلقائية، خجولة. ومع أنها تتحاشى أيَّ ادعاء فهي شجاعة في التعبير عن رأيها. أحس معها بعراقة النبالة الشامية، ومن خلال كلماتها أستنشق عبق التاريخ الحضاري البعيد للشاميين، وما اكتسبوه من لطف وأناقة. في كتاباتها وسلوكها تقدير المرأة واحترام الآخر وحب الاطلاع واقتحام المغامرة. ولها الوفاء. وفاؤها لأختها سنية صالح مصابيح للسالكين على طريق الأخوة. ولأدونيس أعطت حبها الكبير وما يعنيه من تضحيات مؤكدة.
خالدة سعيد ناقدة الشعر العربي الحديث في أعمالها المضيئة بالمستحيل. عبر قراءتنا العاشقة، نكتشف أن مؤلفاتها علامة على رؤيتها الخلاّقة للإبداع وحريته، وأن خالدة سعيد هي نفسها جذور متجدّدة، منغرسة في أعماق تربة الحلم بحداثة عربية لها حضورها في العالم ومع العالم.

* شاعر وناقد مغربي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا