طالما حسبت نفسي من الناس المحظوظين، ليس لأنّني فخور بانتمائي إلى قومية وشعب ودين وطائفة متميّزة، بل لأنّني وضعت بيني وبين ذلك كلّه مسافةً نفسيةً وروحيةً طويلةً لا يمكن قطعها أبداً، وصنعت لي هويةً فرديةً أخرى تقوم على حبّ الفنّ والأدب والثقافة عموماً. وقبل أن أتحدّث عن ذلك، أودّ أن أشير إلى قصّة طريفة، قرأتها في كتاب لتعلّم اللغة الألمانية قبل خمسة وثلاثين عاماً. فقد ذكر قاصّ ألماني – نسيت اسمه الآن – أنّ أباه اصطحبه معه ذات مرّة إلى «سوق سنويّة» أقيمت في مدينة برلين بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت المدينة مدمّرةً تماماً وكان الناس يحاولون البقاء على قيد الحياة قدر المستطاع والعودة تدريجاً إلى «حياتهم الطبيعية». فوقف والد الصبيّ أمام رجل كان يدير ما يسمّى بعجلة الحظّ، وكانت آلة مراهنة وجائزتها الكبرى عبارة عن درّاجة هوائية جديدة. فطلب الأب من ابنه أن يختار رقماً ليجرّب حظّه، فاختار الصبيّ رقماً، ثمّ أدار صاحب عجلة الحظّ القرص الذي حمل مؤشراً صغيراً. وبعدما دار القرص بضع مرّات، توقّف المؤشّر عند الرقم نفسه الذي اختاره الصبيّ. فعقدت الدهشة لسانه وصار يقفز غير مصدّق وهو يهتف لقد «فزت بالجائزة الكبرى». وبعدما قدم له صاحب العجلة الدرّاجة الهوائية، كاد الطفل يطير فرحاً غير مصدّق بأنّه سعيد الحظّ إلى هذا الحدّ، وقاد الدراجة عائداً مع أبيه إلى الدار، وصار يشعر بأنّه أمسك بناصية الحياة وفرصها التي لا تعد ولا تحصى.وذات يوم، حلّت ساعة رحيل الوالد فأسرّ له وهو على فراش الموت: «هل تتذكّر يا ولدي يوم ربحت الدرّاجة الهوائية؟» فقال الابن على الفور: «وكيف أنساها يا أبتِ؟!»، فقال الأب بصوت واهن: «إنّك تعلم بأنّني خضت غمار الحربين العالميتين الأولى والثانية؟»، فأجاب الابن الذي أصبح كاتباً في ما بعد: «نعم يا والدي، وقد حدثتني عن ذلك مرّات عديدة». فاستطرد المحتضر: «وكنت أشعر دائماً بأنّني تعيس الحظّ، حتّى ولدت أنتَ. وفكّرت بأنّ أبعد عنك هاجس التعاسة الذي كان يساورني أيّنما حللت. فذهبت إلى صاحب عجلة الحظّ واشتريت منه الدرّاجة الهوائية بأكثر من سعرها، ثمّ اتفقت معه على أن يجعلها من نصيبك. فاستخدم الرجل حيلةً، فرسا المؤشر على رقمك؛ وذلك كلّه لكي لا تشعر يوماً بأنّك إنسان تعيس مثلما كان أبوك».
والآن أعود إلى قصتّي: عندما غادرت العراق ولبنان وسوريا قبل ستة وثلاثين عاماً، كنت أشعر بأنّني لم أعد بحاجة إلى العرب، دولاً ومؤسساتٍ وأفراداً، مثقفين كانوا أمّ أمّيين. وأضحيت شخصاً مستقلاً وبعيداً عن يد السلطات العربية وقمعها، وكنت أعلم تماماً بأنّ خروجي من العالم العربي سيكون خروجاً نهائياً لا رجعة فيه. وكان الرأي السائد لدى معظم العرب اليساريين والشيوعيين آنذاك هو أنّ كلّ من يقطع بلدان شرق أوروبا، الاشتراكية آنذاك، ويصل إلى الغرب الرأسمالي؛ فإن علاقته بعالمه القديمة ستتحطّم لا محالة، وستنتهي علاقته بوطنه وأهله إلى القطيعة، من دون أن يصبح إنساناً كوزموبوليتياً أو يجد بديلاً أو تعويضاً لخسائره في قارته الجديدة، إنّما سيصبح مجرد مستهلك منزوٍ في ركن مهجور يعيش على هامش مجتمع مستلَب هو نفسه وخاضع لاستغلال الرأسمال الصناعي والمالي. وكنت أعرف بالإضافة إلى ذلك نظرية كارل ماركس عن الاستلاب والاغتراب على اعتبار أنّ الأيديولوجية السائدة هي دائماً أيديولوجية الطبقة السائدة، وأن لا مفرّ من الغربة والاستلاب في ظلّ الرأسمالية.
بيد أنّني لم أكن أبحث عن مجد أو صيت أو مال عندما أتيت إلى أوروبا، بل كنت يائساً ومقتنعاً بأنّ العالم العربيّ موشك على الانهيار التام. وكنت أشم لغة الإقصاء والارتزاق تفوح من أقلام «مثقفيه» ورائحة البارود تنضح من أفواه قادته. فلم يبقَ أمامي سوى مغادرة المشرق العربي، لأتعلّم على الأقل شيئاً آخر غير القتل، والاطلاع على ثقافة الشعوب الأوروبية التي كنّا نسمع عنها ونناصبها العداء. فأمضيت سنوات «المنفى» الأوروبيّ في الدراسة والقراءة إلى يومنا هذا – ذهبت اليوم لأشتري عدداً من الأعمال الكلاسيكية الألمانية لفونتانه وهاوف وكلر وهوفمان، فرأيت سيّدةً شابةً وقفت إلى جانبي وانتشلت كتاباً وأعادته إلى مكانه وسألتني إن كنت وضعته جانباً لأشتريه، فأجبتها بالنفي، فابتسمت وانصرفت ثمّ التفتت ثانيةً وكأنّها أرادت أن تعتذر. فألقيت نظرة على الكتاب، فكان رواية أوسكار وايلد «صورة دوريان غراي» التي قرأتها قبل أربعين عاماً بترجمة لويس عوض. فتركت الكتب التي اخترتها وذهبت وراء المرأة التي وقفت في باب المكتبة وكأنها كانت تنتظرني، لكنّني لم أجرؤ على التحدّث معها عن أوسكار وايلد الذي زرت قبره في مقبرة «بيير لاشيز» في باريس.
يكمن سرّ سعادتي بلا شكّ في أنّني لم أمدّ يدي يوماً لدولة أو مؤسسة أو جريدة أو وزارة أو سفارة عربية، ولن أمّدها. ويعود الفضل في ذلك إلى الثقافة الألمانية ما قبل الحرب العالمية الثانية بالدرجة الأولى والتي حررتني من العديد من الأوهام والغرائز البدائية مثل الغيرة والحسد والبخل والتملّق والكذب ونزعة الثأر والانتقام.
ويعود الفضل في انتقالي من شرق أوروبا الاشتراكيّ المهدد بالانهيار في كلّ لحظة إلى غربها الرأسماليّ إلى مؤيد الراوي أيضاً، الشاعر والفنّان الزاهد والمتواضع والمتمرّد اليساري الذي رحل عن عالمنا قبل عام تقريباً وقد نصحني بضرورة مغادرة ألمانيا الشرقية، وإلا فإنّ رأسي سيكون مربعاً مثل بنائهم الجاهز على حدّ تعبيره. وكنّا نتجوّل آنذاك، عام ١٩٨٠، في مركز برلين الشرقية «الاكسندر بلاتس». وكان مؤيد الراوي يعلم كذلك بأنّ العالم العربي سينهار ذات يوم، لأنّه يحمل الأمراض نفسها التي أدّت إلى انهيار الاشتراكية والأنظمة الشيوعية. وقد شهد ذلك بنفسه عن كثب، ومع ذلك آثر البقاء حتّى وفاته في «منفاه» الأوروبيّ الذي بات الآن مهدداً بالانهيار.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا