تونس | تعيش تونس منذ فترة على وقع احتجاجات صحافية آخرها تنظيم وقفة أمام مجلس النواب بدعوة من «النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين». جاءت هذه الاحتجاجات رفضاً لمبادرة طيف سياسيّ هو «ائتلاف الكرامة» (دافع أحد رؤوسه المحامي سيف الدين مخلوف عن الإرهابيين العائدين من بؤر التوتر، خصوصاً سوريا وليبيا) لتنقيحات المرسوم 116 المنظّم للإعلام السمعي البصري من دون الرجوع إلى أهل الاختصاص، مع خرق واضح لدستورية القوانين ومحاولة السيطرة على قطاع الإعلام ولجم حرية الصحافة وفق ما أكّد نقيب الصحافيين التونسيين ياسين الجلاصي. يتيح هذا التنقيح التدخّل السافر في تركيبة «الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي البصري ــ الهايكا» الحالية، وحذف صلاحية إسناد الرخص التي تمنحها الهيئة لاستحداث قنوات تلفزيونية، مقابل إقرار مبدأ مجرّد التصريح بوجود المؤسّسة الإعلامية. المبادرة التشريعيّة المذكورة المتعلّقة بالقطاع السمعيّ البصريّ، تتضمّن تعارضاً صريحاً مع الدستور والمعاهدات الدولية على رأسها الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وتخلّ بحرية الصحافة والإعلام، وبالتالي تعرقل البناء الديمقراطي حيث يعوز المبادرة احترام حق الشعوب في إعلام نزيه بعيداً عن احتكار اللوبيات والمال الفاسد.

محمد سباعنة ـ فلسطين

وقد كانت الدولة التونسيّة من المصادقين على «التعليق العام رقم 34» الصادر عن اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان الذي يُلزمها بضمان تعدديّة وسائل الإعلام ومنع الهيمنة عليها.
التقليص من صلاحيات الهيئة التي شكّل استحداثها ثورةً حقيقيةً ودفعاً نحو ضمان حق المواطن في المعلومة بعد سنوات من القمع والإعلام الموجه خدمةً لمصالح فئة دون أخرى، يعتبر تمهيداً للتلاعب بالرأي العام. وقد منعت «الهايكا» خلال السنوات الماضية عرض برامج تنتهك حقوق الإنسان ومبدأ الجندرة، كما فرضت عقوبات ماليّة على قنوات تعتمد المغالطات وتبييض الإرهاب والفساد وغيرهما. هذه الحادثة ليست غريبة عن السلطة السياسية وعلاقتها الجدلية بالصحافة حتى في الديمقراطيات العريقة. ذلك أنه كان للصحافة دور في الدعاية السياسية زمن الحروب والأدلجة. ظهر ذلك خاصة قبل انهيار المعسكر الاشتراكي، لتصير الصحف ثم الإذاعات فالتلفزيون ذات وقع على الرأي العام حتى اليوم أكثر من الأحزاب والسلطة نفسها. نذكر مثلاً صحيفة «لوموند» الفرنسية و«واشنطن بوست» الأميركية.
ولطالما كانت محاولة بسط الهيمنة الثقافية طريق المثقف الفنان والصحافي. وهنا نستحضر التحليل الغرامشي لنظرية «الهيجيموني» ودور المثقف العضوي داخل الكتلة التاريخية في الربط بين البنية التحتية والفوقية. يقول إن كل فئة/ طبقة اجتماعية ترى النور في بادئ الأمر وفق وظيفة أساسية في عالم الإنتاج الاقتصادي، فتخلق عضوياً، في الوقت نفسه الذي ترى فيه النور شريحة أو عدة شرائح من المثقّفين الذين يزوّدونها بتجانسها وبوعي وظيفتها الخاصة، لا في المضمار الاقتصادي فحسب، وإنما في المضمار السياسي والاجتماعي أيضاً. هؤلاء المثقفون المرتبطون بظهور طبقة اجتماعية أساسية هم المثقفون العضويون. كما يعرّف الدولة على أنها هيمنة محصّنة بالقمع بكل الأساليب المتاحة لها كالبوليس والجيش والصحافة والمدرسة والكنيسة والقضاء. ومن هنا جاءت فكرة البحث عن مخرج وخلق مواقع هيمنة جديدة تتمحور حول قيادة المثقّف العضوي للمجتمع، فراح غرامشي يحيك في «دفاتر السجن» كيفية قيادة المجتمع. باختصار، رأى أنطونيو غرامشي أن نجاح السلطة البرجوازية في الاستمرار في السلطة والصمود، لا يقتصر على الاستبداد والقمع والسيطرة السياسية (تجربة الاتحاد السوفياتي) وإنما بهيمنتها على التصوّرات الثقافية ووعي الجماهير وإجبارها ضمنياً على تبنّي مواقف السلطة وقبولها. ولا تتحقق الهيمنة إلّا من خلال الضغط على المجتمع المدني والصحافة لخلق رأي عام مؤيّد، أي مجموعة من القيم وسلطة معنوية على الدولة، إذ يرى أن الصحافة هي جهاز هيمنة ايديولوجية بامتياز.
قطع غرامشي مع فكرة المثقفين التقليديين الذين وصفهم بمأجوري البرجوازية، ليؤسّس فكرة المثقف العضوي صاحب المشروع الثقافي الذي يخلق ديناميكية كتلة تاريخية. يرتبط المثقف العضوي بطبقة وكلّما كانت الطبقة أقوى، كمّياً ونوعياً، كلّما صارت الصلات بين المثقفين والمنظمات قوية. لذلك، فإنّ غرامشي يصرّ على الربط بين مفاهيم تحرر الجماهير والمثقف العضوي. ووفق هذا التحليل تبرز أهمية تكاتف مكوّنات المجتمع المدني في تونس مع جهود النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين للدفاع عن الصحافة والإعلام كسلطة اجتماعية وثقافية.
وفي السياق ذاته، يورد الأكاديمي التونسي بكار غريب في كتابه «التفكير في الانتقال رفقة غرامشي» عن أهمية الهيمنة الثقافية في الإبقاء على النظام السياسي، مشيراً إلى أن سقوط نظام بن علي جاء نتيجة فقدانه كل مقوّمات الهيمنة على المجتمع، بعدما أخفق في الجانب الاقتصادي والاجتماعي خاصة.
تعديلات على المرسوم 116 المنظّم للإعلام السمعيّ البصريّ من دون الرجوع إلى أهل الاختصاص


حسب هذا التحليل الغرامشي، فإن ما يجري في تونس منذ الثورة من محاولات تدجين الصحافة هو صراع طبيعي نحو فرض الهيمنة عن طريق الإمساك بزمام الرأي العام. ولغرامشي شبيه فكريّ هو بيار بورديو. فمن نقد المدرسة كأسلوب لتكريس هيمنة طبقة على أخرى، راح الفيلسوف الماركسي المجدّد ينقد دور الإعلام وما سمّاه «امبريالية الميديا». وجّه نقداً لاذعاً للدور السلبي الذي تلعبه وسائل الإعلام والميديا الجديدة منطلقاً من فساد وسائل الإعلام الفرنسية وتبعية المثقفين الفرنسيين. كما يسمّيهم كلاب الحراسة الجدد الذين يسهمون في التوجيه السياسي والتلاعب بالرأي العام.
تمارس الميديا ــ حسب بورديو ــ عنفاً رمزياً وهيمنة للطبقة المسيطرة وللسلطة السياسية، بخاصة لبرامج الترفيه والتسلية المفرغة والاغتراب الثقافي فيما تداخلت الصحافة بالايديولوجيا.
ولا مناصّ من الإشارة هنا إلى أن التكنولوجيا وفقاقيع القنوات التلفزيونية المدعومة من رؤوس أموال تودّ خدمة مصالحها وإخفاء ملفات الفساد والإفساح لموطئ قدم لتدخلات أجنبية في السيادة الوطنية والشأن العام الوطني تسعى بخطى ثابتة نحو إسكات الصحافة والفكر على حدّ سواء.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا