في الخطاب السردي لسعيد الكفراوي عدد من الملامح والسمات التي تؤكد خصوصية هذا الصوت السردي وتدلل على أنه كان يمتلك خلطة خاصة إذا جاز التعبير هي التي شكلت هوية قصصه القصيرة وهو الفن الذي أخلص له طوال حياته الأدبية الممتدة. من أبرز سمات القصّ عند الكفراوي الولع بالتفاصيل وبخاصة الألوان والأشياء وتفاصيل المكان وأبعاده. ولهذا نجد كثافة في حضور التفاصيل والجمادات والأشياء ووصف الطبيعة. وصف لقطع الأثاث والكتب وأسطوانات الأغاني والموسيقى والخلفية الحياتية في المشهد السردي ووصف للملابس وملامح الجسد وغيرها الكثير من التفاصيل التي لا تشكّل عبئاً أو ثقلاً في السرد أو تؤثر بشكل سلبي على التلقّي. بل على العكس، هذه التفاصيل الكثيفة تصبح تمثيلاً جمالياً مثاليّاً في هذا السرد لسببين: الأوّل أن هذه التفاصيل الكثيرة إنما تأتي ممزوجة بمشاعر الشخصية المسرود عنها أو وجدانها، وليست تفاصيل في المطلق. هي تأتي عبر تبئير داخلي يجعلها ممزوجة برؤية الشخصية وإحساسها وجزءاً من المعاني أو الحال النفسية التي يقاربها السرد القصصي، أي أنها ليست ترهلاً أو استطراداً مجانيّاً منفصلاً عن الشعور والحال العاطفية وعن الشخصية. الأمر الثاني أن هذه التفاصيل تأتي موزّعة في فضاء القصة وفق استراتيجية نابعة من التوزيع النفسي أو الداخلي والتناغم مع العناصر السردية الأخرى من حوار أو لغة أو حركة. هكذا فهذا الوصف للتفاصيل لا يستحوذ على مساحات طويلة وكبيرة في القصة ولا يمتدّ ليهيمن ويطغى بشكل كامل فيصبح مملّاً، بل يأتي في جمل قصيرة، وخاطفاً وفي موضعه المناسب وفي إطار رصد دقيق لتأثيره داخل ذهنية الشخصية وتكوينها الداخلي. فقد يصف مثلاً لمعة ضوء أو الإضاءة في مكان أو غروب الشمس وشروقها في جملة أو جملتين فقط، وهي في الغالب جمل قصيرة تتبعها مباشرة صورة مجازية عن أثر هذا الوصف في نفسه، كأن يشير إلى كونه يسكن في غرب المدينة بعد أن تأتيه الشمس في إشراقها وقد مرت على كل البشر، ولا تغيب إلّا بعدما تغادرهم جميعاً، ويكون هو آخر من تودعه الشمس، أو أن يصف الليل في القرية في لحظات بعينها أو أن يصف شجر البرتقال وقت إثماره بلغة مجازية خاطفة وسريعة ويجعل هذه الأشجار جزءاً من المشهد ومن بقية العناصر ويصبح ممتزجاً بالحركة والحوار.
المكان عنده حافل بالشعريّة، فهو مصدر جذب الانتباه ومصدر الغموض


من سمات خطابه القصصي كذلك أنه يبدو كما لو كان مؤمناً بتجريد الخطاب القصصي من الأفكار والرسائل البارزة والقضايا الكبرى ويبدو السرد مقتصراً على وظائفه الجمالية وطابعه الإنساني فحسب. فكأنه رسام أو نحّات يؤمن بأهمية السرد لمجرد أن يشكل منحوتات ولوحات سردية ذات طابع إنساني نابض وحيوي وحافل بالحركة والمعاني الإنسانية والأحوال المتوارية والمعاني الخفية، ويبدو الإنسان بصفة عامة في هذا السرد القصصي عالماً مجهولاً وغرائبياً، فالنفس الإنسانية لديه تكاد تكون غابة مجهولة وحافلة بالغرابة ويتوقّع منها المفاجآت دائماً. ولهذا فإن كثيراً من الشخصيات لديه تخرج عن الطابع النمطي أو السيمتري الثابت، بل إنّ الكفراوي أقرب لأن يكون منقّباً في غموض النفس الإنسانية سواء كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً صغيراً. فالإنسان دائماً حافل بالمغامرة ينزع إلى التغيير والتجديد ولا يتوقف عن التطور. ولهذا فإنّ كثيراً من مظاهر الدهشة والتجدد في عوالمه السردية يكون نابعاً من ديناميكية النماذج الإنسانية التي يسرد عنها. فالطفل مغرم دائماً بالسفر والخروج على القواعد، يريد أن يستكشف العالم من حوله، وكذلك الرجل أو الزوج أو الزوجة. وربما تبدو المرأة بشكل خاص ذات صورة مغايرة وتبدو أكثر جرأة ومصدراً خصباً للمفاجآت.
هذا ما نراه مثلاً في نموذجين في قصتين. في واحدة منها نرى المرأة تعيش أزمة بسبب زوجها السابق الميت الذي تريد أن تزور قبره بمعرفة زوجها الجديد، فيحدث توتر ومشكلة بينهما تنتهي بشكل غريب وطريف. وفي مرة أخرى نرى الزوجة التي ترغب في أن تلتقط لها صورة زفاف (عريس وعروسة) بعد عشرين عاماً من الزواج. وبشكل عام نجد أن قصصه تقارب علاقات الزواج بحسّ مرهف قادر على رصد جميع التوترات والتحولات في العلاقة من شدّ وجذب وعشق وفتور وهيمنة لأحد الطرفين وغيرها الكثير من أبعاد. هذا الارتباط الذي يبدو بيئة خصبة لديه، تمكّن من استكشافه على نحو جميل وطريف. ظلّت قصص الكفراوي مرتبطة وموزعة بين عالمي القرية والمدينة على نحو يكاد يكون متساوياً، بل إن المدينة عنده مهما بدت حافلة بمظاهر التحديث والحضارة، فهي أقرب لأن تكون قرية كبيرة. ويمكن القول بأنه يكاد يكون باحثاً لتلميح ثابت بأن المدينة في جوهرها لا تختلف كثيراً عن القرية، ذلك لأن الإنسان واحد في الاثنين. ولهذا فإنّ المدينة هي الأخرى لا تختلف في أجوائها الغرائبية عن القرية، ففيها الأرواح التي تسكن البيوت وفيها الحيوانات والكائنات التي تمثل مصدراً للخوف والرهبة. والحقيقة أن المكان بصفة عامة لديه حافل بالشعرية، فهو مصدر جذب الانتباه ومصدر الغموض ويمكن أن تنفجر منه أو بسببه أحداث كثيرة. ولهذا فإننا يمكن أن نقول إن ثمة حساسية خاصة جداً بالمكان في سرد سعيد الكفراوي، والحقيقة هو خطاب متميز ويحتاج إلى دراسات من زوايا عدة وبخاصة اللغة والمجازات وعلاقتها بالعناصر الأخرى، فضلاً عن الثقافة البصرية وأنماط الشخصيات لديه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا