رواية «صيف البلابل» (أرواد للطباعة والنَّشر - طرطوس) للشاعر والرِّوائي والباحث والوزير السابق طراد حمادة، كُتبت ــ كما جاء في صفحة غلافها الداخلي الأولى ــ «في زمن كورونا - ٢٠٢٠». لزمن هذه الكتابة دلالته، فزمن الوباء، وهو أحد أزمنة الرواية، هو زمن كورونا الذي شكَّل فضاء كتابة هذه الرواية، الدافع الى البحث عن خلاص.العنوان «صيف البلابل» علامة دالّة على العالم الذي تنتهي إليه الرواية. وإذ نعلم أن البلبل هو «ترجمان الأشواق»، ومنه استقى ابن عربي عنوان ديوانه المعروف، ندرك هوية هذا العالم الذي تمضي إليه الرحلة في الرواية. فهذا العالم هو «مدينة جديدة سماوية على الأرض»، يطلق المشارك في «عَمارها»، زارع الورد والخضار والأشجار الحرجية والمثمرة، العاشق والمعشوق، من لسانه ولسان شركائه في «العمار»، «صفير البلابل» الناطق بالحبِّ، والحبُّ، في فهم هؤلاء الشركاء، هو الوجود والمعرفة وتاَلف القلوب...
تنتهي الرواية إلى هذا العالم في رحلة طويلة، تتخذ روايتها، بدايةً، بنية قصة إطار، يؤدِّيها راوٍ عليم، فيروي أنَّ ثابت بن مرَّة، العالم الموسوعي والرحَّالة والراوي الموثوق، يجد نفسه في خربة عالمٍ قضى عليه الفساد والوباء والاستبداد، وقربه جواد مُسرَج، ويرمي إليه طائر مخطوطاً يحتاج إلى من يفكُّ رموزه، فيمتطي الجواد، ويرحل إلى مدينة خضراء تُبنى بناء مستوحى من بناء القرى الزراعية القديمة. يشارك في البناء، فيُعطى اسماً هو عمَّار، وبيتاً، وحقلاً، ويختار أن يزرعه ورداً. وإذ يفعل تسكن الحقل البلابل وسائر العصافير، فيتشكَّل فضاء كأنه الجنان. وإذ يواصل ثابت حياته في «مدينة الله والإنسان»، كما يسمِّيها، تشتعل ذاكرته كأنها لهب أشعلته مواقد النجوم، وتتدفق التداعيات، بمختلف أنواعها، في عملية تذكُّر تختلط فيها الأزمنة، في ديمومة برغسونية تتمثل في استرجاع للماضي القريب والبعيد الذي لا تنضب دماء نهاراته ودموع لياليه، ووعي للحاضر الذي تتم فيه عَمارة المدينة، ورؤيا للمستقبل الذي يُراد له أن يكون زمن الخلاص، زمن صيف البلابل.
ثم يصبح هو الراوي، ثم يتم التناوب بين الراويين: الراوي العليم والراوي الشخصية، فتتناوب الرؤيتان: «من خلف» و«مع» على تشكيل بنية الرواية التي تمضي في سياق تنتظم فيه التداعيات، وهو سياق القصة الإطار، وتتنوَّع هذه التداعيات بين أحداث وحكايات وحوارات وحلقات تلفازية ومحاضرات ونصوص فكرية وعلمية وسياسية وشعر وأحلام وكوابيس...
ويُحكى، في سياق القصة الإطار، تاريخ من عمر عالم الفساد والنهب و... قصص الوباء...
يلتقي فتاة جميلة عالمة فنانة مثقفة، أستاذة فلسفة واَداب وباحثة في الفنون. هي روز البستاني. وهنا تمضي القصة في مسار خيطي متكسِّر بالاسترجاع، متقطِّع بالوصف وتضمين النصوص المتنوِّعة. تفكُّ روز رموز المخطوط، وتكتشف أنه ديوان شعر حيَّان اسماعيل، عنوانه: «نصوص الأزمنة الصعبة، شتاء - ٢٠٢٠». هو حيَّان اسماعيل، هو شاعر، تعود إليه الذاكرة، فيحكي لها حكايته، حكاية الشاعر الأديب العالم، العارف الأصيل...
ويرى أنَّ اسم عمَّار الآدمي هو اسم التكيُّف في عالم الذاكرة التي أعادت الحاضر إلى ماضيه. وتحكي له حكايتها، فيعلم أنها تنتمي إلى حزب الأرض، المعروف بالحزب الأخضر، وهو الذي يبني هذه المدينة. ويعلم، أيضاً، أنه نجا، وهو في طريق هربه من عالم الفساد والوباء إلى هذه المدينة، من حادث سيارة أدَّى إلى موت صديقين له، كانا من أعضاء الحزب الواعد بالخلاص.
الطبيعة، والإنسان موسوعي المعرفة، العاشق والمعشوق، والعلاقة التي تقوم بينهما


يبدو أن اختيار اسم الشخصية الرَّئيسية، في مرحلة التذكُّر والمشاركة في بناء «المدينة الجديدة»: ثابت بن مرَّة يمثِّل علامة دالَّة، فهو يحيل إلى اسمي عَلَمَين من أعلام التاريخ العربي الإسلامي الكبار هما ثابت بن قرة ( ٨٣٦ - ٩٠١ م.) وحفيده ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة (ت. ٩٧٥ م.)، فهما ابنا أسرة علمية، وكلٌّ منهما عالم موسوعي المعرفة، وأديب، وإذ تفرَّد أوَّلهما، إضافة إلى موسوعيته، بالاشتغال بالموسيقى، فإن ثانيهما كان، إضافة إلى موسوعيته، رحَّالةً وراويةً ومؤرِّخاً. وإذ يتبيَّن ثابت بن مرَّة أن اسمه الحقيقي حيَّان اسماعيل، ويغدو الشخصية الرئيسية في الرواية، في المرحلة التالية منها، يتكشَّف للمتلقي أن حيان هذا هو ثابت بن قرة هذا العصر، فهو موسوعي المعرفة، وعلاَّمة في مختلف صنوفها، فأسماء الأعلام، قدماء ومحدثين، العرب والمسلمين والغربيين، كثيرة جداً في الرواية، ونصوصهم المقتبسة كثيرة أيضاً، ما يدلُّ على موسوعية حيان، إضافة إلى أنه شاعر ومنتج معرفة. وهذا يعني أنه يمثل إحياءً للشخصية العربية الإسلامية، موسوعيَّة المعرفة، في امتدادها التاريخي، وهي شخصية تمتلك الهوية التي تحدثنا قبل قليل عن مكوناتها، واسم حيان اسماعيل الذي يعني الاحياء... وجدَّ العرب، ينتج هذه الدلالة، وهذه الشخصية هي التي توكل إليها عمارة الأرض، وهذه هي دلالة اسم عمَّار الاَدمي، فالاَدمي نسبة إلى آدم الذي نزَّله الله إلى الأرض ليكون خليفته عليها. عمَّار هنا هو عمَّار الممتلك هوية ثابت وحيان، وحارث الحقول وغارس الورد وشجيرات الخضار والأشجار المثمرة، وعاشق روز البستاني عاشقته، ولاسمها دلالته الواضحة التي لا تحتاج إلى تأويل: ورد البساتين، والعاشقان من المشاركين في بناء المدينة الجديدة التي يتآلف بُناتها ليمثِّلوا شراكة إنسانية يمكن التعبير عنها بـ «سيمفونية» تشارك عناصر كثيرة في تكوينها تتمثل في الطبيعة، والإنسان موسوعي المعرفة، العاشق والمعشوق، والعلاقة التي تقوم بينهما، وهي علاقة حبٍّ تعطي الخير، الذي تغنِّيه البلابل في أغاريدها، فتُترجم عشق الإنسان للطبيعة ولأخيه الإنسان، ما يصنع «صيف البلابل»، وهو الزمن الذي يكون فيه الإنسان خليفة الله على أرضه، يعيش فيها في مرحلة اختبار، ويسعى إلى موطنه الأوَّل المتمثِّل في جنان الخلد، فيكون من الواصلين المجتازين مراحل العشق، كما الطيور في منظومة منطق الطير لفريد الدين العطار. وبهذا تكون هذه الرواية قد قدَّمت أنموذجاً لمدينة جديدة يجد فيها الإنسان خلاصه من الفساد والاستبداد والوباء... هو أنموذج مدينة فاضلة، حلم من أحلام الإنسانية في سعيها إلى الخلاص في الدارين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا