«يتم اختبار مفهوم «الفحش» عندما نسمح لأنفسنا بالنظر إلى شيء نرغب في رؤيته، ولكنّنا نحرم أنفسنا من النظر إليه. عندما نشعر أن كلّ شيء قد تم الكشف عنه، يختفي مفهوم البذاءة ونشعر بتحرّر معيّن. عندما لا يتم الكشف عما يقرر المرء رؤيته بشكل كافٍ، فإن المحرمات تبقى وكذلك الشعور بالفحش، الذي قد يصبح أكثر تعقيداً». جملة قالها ناغيسا أوشيما دفاعاً عن فيلمه الذي يصف بذكاء وجدية الآثار التي يمكن أن تُحدثها الرغبة الجامحة والحبّ الوثني والهوس من خسارة علاقة. «إمبراطورية الحواس» (1976) هو الجدية والحدّة السينمائية التي تتعامل مع موضوع الهوس الجنسي والروحي. يسأل الفيلم: أين يبدأ الانحراف الجنسي وأين ينتهي الحب؟ لا إباحية هنا (حتى لو أنه يحوي مشاهد جنسية صريحة) ولكنه دراسة مقلقة عن حبّ مدمّر ومميت، مع نهاية دموية مزعجة ولكن مفهومة. التمثيل الصريح للمشاهد الجنسية وبقع الدم، جعل «حرّاس الأخلاق» يصرخون عند عرض الفيلم في «مهرجان كان» وفي اليابان. نقل المخرج الياباني ناغيسا أوشيما إلى الشاشة الكبيرة قصة حدثت بالفعل عام 1936، عن عاشقين باعا نفسيهما في مزاد شهواتهما، إلى درجة أنّ الرجل استسلم للخنق وعواقبه، والمرأة قطعت أعضاءه التناسلية من أجل الاحتفاظ بها إلى الأبد.
هذا الفيلم قبل أيّ شيء، وربما في النهاية وحدها، سيبقي ناغيسا أوشيما (غودار الياباني) المخرج الشقي في «الموجة اليابانية الجديدة» في الستينيات، حيّاً. هو الذي تُعتبر حياته السينمائية سياسية، بل سياسية جنسية. استخدم الدوافع الجنسية كوسيلة للاحتجاج السياسي في أفلامه. جرّب في أعماله أشكالاً متطرّفة من التمثيل. يروي الفيلم قصة بائعة الهوى سادا، أوشيما البسيط والمجنون وحده يمكن أن يخبرها. هي التي خنقت حبيبها بموافقته. وبعد الموت قطعت أعضاءه، ومشت في شوارع طوكيو، وآثار الحب في جزدانها. خلال محاكمتها، أصرّت على أنها تصرّفت بدافع الحب، وطلبت عقوبة الإعدام، ولكن حكم عليها بالسجن ستّ سنوات. بعد إطلاق سراحها، أصبحت أيقونةً في اليابان. انضمّت إلى فرقة مسرحية لتمثيل قصتها بنفسها واعتبرها كثيرون رمزاً لتحرير المرأة. في أوائل السبعينيات، تعقّب ناغيسا أوشيما المرأة العجوز في أحد الأديرة أثناء إجراء الأبحاث لفيلمه.
تنشأ بين سادا آبي (إيكو ماتسودا) بائعة الهوى السابقة وكتشيزو (تاتسويا فوجي) علاقة عاطفية. هو صاحب فندق غيشا وهي تعمل هناك كخادمة. تتطور العلاقة إلى درجة التبعية ويقع كتشيزو في حب سادا أكثر فأكثر. العلاقة التي تقوم بشكل أساسي على التجارب الجنسية، تخرج تدريجاً عن السيطرة. يترك عائلته من أجلها. ومعها يقطع نفسه عن العالم الخارجي ويتغلّب على الحدود الجنسية الواحدة تلو الأخرى. نشأ بينهما شغف يترك كل المحظورات والأعراف وراءه. ما بدأ كلعبة ممتعة، أصبح هاجساً. لا يعرّض للخطر الوجود الشخصي والمهني للقواد فحسب، بل يصبح قريباً مسألة من حياة أو موت.
الفيلم لائحة اتهام ضد الرقابة والأخلاق الزائفة


على الرغم من أنّ الفيلم ياباني بعمق، إلّا أنه مشبع بأفكار الفرنسي جورج باتايّ، حيث العاطفة الجسدية والمتعة الجنسية وطعم الموت ترتبط ارتباطاً وثيقاً. تم تصوير الفيلم بالكامل في الداخل، مع لقطات ثابتة ومقرّبة بشدة، تذكّرنا بالفن الياباني المتمثل بنقوش أوتامارو وهوكوساي، مع الأناقة التصويرية للديكورات الداخلية، إلى مطبوعات الرسامين الإيروتيكيين في القرن الثامن عشر اليابانيين. تزداد الموسيقى واستخدام الألوان الزاهية جداً مع إدراك المأساة الوشيكة. تميل الصور والمشاهد إلى التداخل، تزاوج مستمرّ للصور. تنصهر في البيت الإيماءات والمشاعر، والتشنج الذي يربط الأطراف، حيث تفهم الشخصيات أنها تجاوزت نقطة اللاعودة، ويكشف الفيلم عن الطبيعة الحقيقية للحب لمن يريد أن يتبعه.
الفيلم أبعد من أن يكون فيلماً جنسياً صريحاً أو قصة حب عادية. هو لائحة اتّهام ضد الأخلاق الزائفة والرقابة. يبدأ التمرد السياسي للمخرج الياباني من تحليل معمّق لمفهوم الفاحشة. يتساءل عما هو غير مقبول أخلاقياً: إظهار الفحش أو بناء إمبراطورية اقتصادية ورأسمالية؟ ما هو غير الأخلاقي؟ توسيع مفهوم المتعة أو إرسال الأبناء والأحفاد إلى المذابح لغزو الدول المجاورة وإخضاعها؟ لذلك، اختار أن يروي قصة حب، يدوس فيها على رابط الزواج، ما يكشف النفاق الأخلاقي لأولئك الذين لا يقبلون الجنس، ولكنهم يوافقون على إرسال جنود لخوض حرب إمبريالية أخرى.
«إمبراطورية الحواس» شريط سياسي ثوري لتحرير الشعب من قيود النظرة البرجوازية. من قيود عين لا يحق لها توسيع الرؤية. «إمبراطورية الحواس» يُرى بعيون مفتوحة، لأن الفحش الوحيد هو إغلاقها.

* In the Realm of the Senses على Mubi

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا