المتن الحكائي في «الكراكي» (منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب) للقاص والروائي الفلسطيني المقيم في دمشق حسن حميد، يتألف من حكايات عدة هي: حكاية الأب طنوس، راعي الكنيسة، وابنته ماريا، وحكاية عبد الله (عبودة) الذي تربِّيه أمه هدلا، بعدما رحل زوجها، ولم يعد، وحكايات الحشد الغجري وفلاحي القرى، وحكايات طبريا وتسمياتها، وحكايات الجنود الشقر...السؤال الذي يُطرح إزاء هذا العدد الوافر من الحكايات، هو: كيف أقام منها المؤلِّف بنية روائية ذات فاعلية جمالية دلالية؟
تبدأ الرواية بـ «عَتَبة لا بدَّ منها». العتبة/ الباب هذه تفيد أن «مُعلن» الرواية، ويسمِّيها الكتاب، عثر على هذا الكتاب في صندوق جدِّه الياس الشمندوري الذي عاش في الأزمنة الغابرة، وقد كان من القرَّائين والكتَّاب المعدودين اَنذاك. يلي العتبة تصدير يفيد أن الشمندوري لم يرَ سيدنا (السيد المسيح) في طبريا، لأنه كان صغيراً في زمنه، وأنه يروي مما قيل له. وهذا يعني أنَّ ما ترويه الرواية يعود إلى زمن تبشير السيد المسيح بالمسيحية. وإذ نعرف زمن ما يُروى، ندرك وظيفة هذه «العتبة»، فهي تُعطي الرواية مصداقية الوثيقة، لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو: هل كان الشمندري يعرف اللغة العربية في ذلك الزمن؟
وتفيد العتبة نفسها أنَّ زمن فتح الصندوق تمَّ بعد أن تهيَّب «أربعون جداً وأزيد من ذلك»، أي بعد حوالى ألف ومئتي سنة وأزيد من تأليف الكتاب (يقدَّر عمر الجيل بين ٢٥ و٣٠ سنة). وهذا يفيد بوجود فاصل زمني طويل بين زمن العثور على الكتاب وزمن نشره في هذه الأيام. يروي هذا الكتاب، كما تفيد العتبة، وقائع «الحياة التي عاشها الشمندوري في محيط بحيرة طبريا قرب أجران المياه الكبريتية الساخنة». كما تفيد أن الشمندوري هو الذي كتب الكتاب بحبره الأسود الغامق... لكن قراءة الرواية تفيد أنها تروي وقائع حياة البلاد/ فلسطين، وليس حياة الشمندوري فحسب، هذا إن رأينا أنَّ «عبودي» هو الشمندوري. كما تفيد أنَّ الراوي يتنوَّع بين المتكلم عبودي والعليم، وإيكال كل منهما للشخصيات الروائية الأخرى أن تروي، ما يدل على تعدُّد الأصوات التي تروي وقائع الحياة في البلاد، وهذا، أي الحياة في البلاد، هو ما يشكّل محور الرواية الذي ينظم تلك الحكايات الكثيرة، وهو المحور الذي ينطق بدلالات يقصر عنوان الرواية: «الكراكي» عن أدائها. وهذا ما سنوضحه في ما يأتي.
تتألف الرواية من وحدات سردية كبرى مُعنوَنة، يمضي السرد فيها، على مستوى البنية الروائية الكليَّة، في تناوب بين حكاية وأخرى، فتؤدَّى وقائع كل حكاية وعلاقاتها بالحكايات الأخرى، فيتشكل نظام علاقات كاشف للحياة في البلاد في تلك المرحلة من الزمن، ناطق بدلالات منها: البلاد عامرة، الحياة فيها ساحرة داهشة... ويمضي السرد، على مستوى كلِّ وحدة سردية في سياق خيطي لا يخلو من تكسُّر، وتلي المتن استدراكات وهوامش، فتكمل القصَّ من نحو أول، وتشكل تأليفاً مشابهاً لما كان عليه التأليف التراثي، في زمن كتابة الكتاب، من نحو ثانٍ. وهكذا تتشكل بنية روائية تجريبية تستخدم تقنيات روائية حديثة وتقنيات كتابة تراثية، ولعلّي لا أجانب الصواب إذا قلت: إنّ حسن حميد يواصل هذا النوع من التجريب الروائي الذي قد يكون خاصاً به.
يتكون النسيج الروائي، الذي رأينا حِراكه إلى التشكُّل في بنية روائية تجريبية، من سرد رشيق مشوٍّق ووصف خلاق للمعنى. ولعله يمثل نوعاً من التعبيرية يُنطق الأشياء بالحالات الإنسانية، والحوار الرشيق والتأمل... وهذا كله يمثل علامات دالَّة، كما رُوي عن السيد المسيح: «بلاد ستعرف مطاردات كثيرة مثل المطاردات التي يتعرض لها... وأن هذه البلاد ستظل لأهلها، ولن يكون وجود الغرباء فيها حضوراً، مهما امتد، سوى لحظات تشبه رمشة الهدب» (ص. ١٢).
تعرُّض البلاد للمطاردات التي لن يكون لأصحابها حضور... نقرأه في معظم الإنتاج الأدبي الفلسطيني وكثير من الإنتاج الإدبي العربي كأنه يمثل الوجدان الفلسطيني العربي. فعلى سبيل المثال نقرأ لمحمود درويش، في مجموعة «لماذا تركت الحصان وحيداً» حواراً بين الأب وابنه يفيد أن قلاع يهوشع بن نون وقلاع الصليبيين ومواقع نابليون وبغال الانكشاري وأسيجة الإنكليز... جميعها سقطت، وبقي المكان ناطقاً...
يبدو لي أن عنوان الرواية «الكراكي» قاصر عن أداء هذه الدلالات، فالكركي، في الواقع، طائر أغبر اللون، طويل العنق والرجلين، قليل اللحم... والكراكي في الرواية غدت تعيش في بلدة جدِّه كما لو أنها الخراف أليفة بنى الناس لها أعشاشاً مجاورة لأعشاش الحمام... وأنها جاءت بالربيع والمطر، وأنها تحيط بالبيت كأنها الخراف...
ما ترويه الرواية يعود إلى زمن تبشير المسيح بالمسيحية


هذا جميعه لا يمثل علامة دالة على ما تنطق به الرواية من دلالات الحياة العامرة الساحرة في بلاد تواجه مطاردات دائمة وتقوى على طردها وجعلها لا تقيم سوى رمشة هدب من أهداب الزمان. والجنود الشقر/ الرومان في الرواية سقطوا، ومثلهم سيسقط الجنود الصهاينة، متعدِّدو الألوان، الذين يمثلون إحدى المطاردات التي عرفتها البلاد.
وتحضرني، هنا، رواية الروائي العراقي سعد محمد رحيم (١٩٥٧ - ٢٠١٨)، «غسق الكراكي»، جاء في أقوال مؤلف هذه الرواية عن سبب تسميتها بهذا الاسم:
«طائر جميل، ربما لا يكون هذا موطنه، انه يرحل، لا يحب السكن الدائم مثلنا»، فبين طائر مقيم وطائر لا يحب السكن الدائم تختلف الرؤية والدلالة.
وإن كان لي أن أقترح عنوانا دالَّاً، فهو، وأستعيره من رسول حمزاتوف «بلادي».
وقديماً قال الشاعر الشعبي شناعة العاملي: مزالي جاذب السرعين (عنان الجواد) بيدي/ بلادي ماحدا غيري يطاها (يطأها).

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا