«لو تمكّنت من فهم ما ترويه الأمواج، فستتمكّن من المشي على المياه» (كريستوفر نولان).هل الشعر يأخذ هيئة الحلم والأشياء المنسية تظهر في هيئة الشعر، حتى نظن أنّه لم يتبقَّ سوى طي مسافة «الآن» حتى تتكون وفي الأبد كالمسافر المتوحّد يعبر في موج الكلمات وهو مستقر على الورق، منقاداً إلى حقيقة الشعر كما هي، وكما كان يراه؟ فهما متقابلان، كلاهما يتأمل الآخر. هو يعتقد أن الأمر يتعلق أيضاً بالشعر وأن كلّ ما يحدث هو نفسه، عندما تنظر الكلمات بعين الدهشة الأولية، دهشة لا يمكن توقّعها. إنّها نغمته الخاصة كمطر ناعم في يوم صيفي، بفرادته وغريزته الشعرية، هذه الغريزة التي ستبقى أبداً قابضة على سرها ورهانها القادر على النفاذ إلى جوهر الأشياء، كما لو أنها تحمي ما تعلن عنه وأنها أقرب إلى أسرار الروح، فهي تجعلك في الرؤيا رفق الخيال التي وُضعت فيه، وهذا هو أقصى الشعر، وهذا ما سنجده في قصيدة «المرأة التي فرت من لوحة سلفادور».
لقد عكس الشاعر محمد علي شمس الدين في هذه القصيدة تجربة ذات بعد إنساني أكثر عمقاً؛ إذ جعل محورها مغامرة الروح في احتمالات الحضور المتعددة، والبحث عن اللامرئي كامتداد للأفكار التي تشرق وتضيء، وتنحاز إلى اللغة والشعر والحياة وتقودك إلى قلب الأشياء. ربما تجليات الرغبة استرسلت في التأويل وذابت في الكلمات، وجداً جمالياً، وروحياً، ورؤيوياً. إنها شعرية من نوع آخر، تشعرك بالحياة في القصيدة.
اللوحة من أشهر لوحات دالي رسمها عام 1925 والفتاة الواقفة عند النافذة هي آنا ماريا، شقيقة الفنان التي لا تظهر في اللوحة سوى من الخلف فيما أخفى دالي وجهها، مع التفاتة إلى اليسار حيث في الجانب الآخر «كنيسة سانتا ماريا» التي يظهر انعكاس صورتها على زجاج النافذة يمين الفتاة، فهل كانت تؤدّي صلاة في صباح ساطع؟ ثمة مشهد حرّ للوحة يؤكد الوعي باللحظة الراهنة في وقت مبكر من صباح صيفي، ويؤكد أيضاً أن الحضور الأول للضوء كأنه يبدأ سيرته الأولى، فيتمسرح على الفروق الدقيقة في الألوان بإيقاعات موسيقية. اللوحة يغلب عليها اللونان الأزرق الفيروزي المتموج الذي يعتبر لون الروح، فيعطي شعوراً بالاسترخاء ويعكس معاني المصداقية والموثوقية، والأرجواني الشاحب لون غير عادي وغني على وجه العموم، فهو مشرق ومشبع بما فيه الكفاية. سنجد أن اللوحة تشكلت بالكامل تتخللها فكرة الحركة المتناغمة والنامية، وهي توضح الأداء النهائي بالفعل، كأن الزمن يكتمل فيها والكثير من الشعر والأفكار. حاول الفنان في بحثه الدائم عن الإلهام والابتكار اكتشاف أسرار الضوء ومذاق الألوان وتصوير الصباح بكل روعته، بالتوازي مع حضور الفتاة التي تنظر بعيداً في المسافة، وترغب في النظر إلى ما وراء الأفق. فهي تشبه البحر، رمز الحرية، رغم أن موجاته هي رمز للتغيير وعدم الثبات. وقد أظهر دالي في هذه اللوحة أنه أكثر قابلية للتأثر بالواقع المحيط، فرسم الألوان كأنها تآلفات موسيقية لمقام «النهاوند» تعزف لون السماء بنغمات مفتوحة تلامس السلم الموسيقي الصغير الغربي، وتستند للإيقاعات الظاهرة للألوان ببساطتها الاستثنائية واللماحة المنفلتة من ضوء الصباح، لتستقرّ في شكل صورة شعرية، ثم تتهادى على مقامي البياتي والرست لتعزف موجات البحر التي أخذت طابعاً يشبه أجواء الحضرة الصوفية.
يقول الناقد جون ستاروبنسكي في مقدمته لأعمال الشاعر الفرنسي إيف بونفوا «الشعر هو البحث من جديد عن التماس مع ما هو آني في الحياة»، ونحن نقول قد يكون الآني زمناً مطلقاً على قيد لحظة، بعيداً عن الوقت. وهذا انتشاء ميتافيزيقي بنعمة وجود زمن مواز ومدهش، لا يشبه على نحو استثنائي أيّ زمن آخر، تتحقق فيه إمكانية ملامسة جوهر الذات والأشياء، ونوع من الوصول إلى الحلم، مما يجعلنا نكون ونحن لم نكن. ولقد برع الشاعر شمس الدين بتمكّن وروحانية وارتقى بالكلمات حيث منحها صوتاً مرئياً وحيوياً لإظهار الفعل الشعري المتأمل، على نحو يختفي معها كلياً وجود اللوحة وتبقى فقط ذات الشاعر المتأملة، فدالي رسم زمناً أبدياً في اللوحة وشمس الدين كتب الحياة عبر القصيدة. فالزمن يمضي بقدر ما مضى منه وهو ماض بلا توقف، والزمن هنا ثلاثة أزمان يحتويها زمن رابع، فالزمن الموجود في اللوحة وزمن الشاعر الذي ينظر للوحة كل يوم، ليجد أن الفتاة قد فرت منها، وزمن القصيدة، وزمن المتلقي الذي سيحتوي هذه الأزمان بالقراءة. يستهل الشاعر قصيدته بكلمة حينَ، وهي ابتداء، لحظة آنية، ثم يتمدد الزمان، فيتجرد من قيد الوقت ليذهب إلى مطلقه فيقول الشاعر: «حينَ فتحتُ الألبومْ/ ونظرتُ إلى لوحة دالي:/ «سيدةٌ تنظر من نافذة مفتوحة»/ ألفَيْتُ المرأة قد غادرت الصورةْ/ والنافذة المفتوحةْ/ ظلت نافذةً مفتوحةْ».
لغة القصيدة نقية وقريبة وناصعة تتناسب تماماً مع بلاغة الخيال، فهي تتجلّى وتتجسّد في هيئتها كفضاء للخلق الإبداعي، لتصبح وحدة جمالية كاملة من حيث المبنى والمعنى ولتنبت وتتبرعم روحاً أخرى فيها وتزهر كأنّها فكرة لا تنتهي.
الفتاة تهمس للشاعر «لا تدعني وحيدة كالريح أَرقب البعيد، كن جواري»، والشاعر ينادينا لنرقب الحياة في اللوحة على قماش القصيدة. جعلنا نشعر بالشعر موجوداً حولنا كالضوء، يشع علينا وليس لنا إلّا أن نتبعه في تحوله في سيميائه من كلمات إلى شعر، والسيمياء هي تحويل المستحيل إلى حقيقة. لكن الفتاة منحت نفسها حريتها وفرّت من اللوحة. لذا القصيدة تنفي الثبات في اللوحة ويتجسد هذا النفي في إبداع الشاعر الحر والخلاق الذي استحوذت عليه فكرة البحر والاتساع، فهو يعيد ابتكار حلمه الروحي في القصيدة، وهي انعكاس لذاتها أيضاً، فهي حركة نحو الاحتمال، وما يمكن أن يكون بعد الكلمات، مبتدئاً بذلك تلك الدهشة التي لازمت المتلقي أمام أسرار القصيدة وألغازها، وهو يتساءل أيهما مكمل للآخر كتابته أم الحياة؟
«قلتُ لنفسي/ وأنا أقلّبُ صفحات الألبوم بصمت:/ هل يمكن أن يحدث هذا؟ هل يمكن أن تترك سيدةٌ صورتها، وتسيرْ؟ هل يمكن أن ترتحل الألوانُ/ كما لو ذابت في ماء دافقْ؟».
القصيدة استكملت حضورها وحداثتها الفنية وأنجزت بلاغتها الشعرية عبر تقنيات ساهمت في خلق صور مبتكرة تتناغم مع حسّ اللحظة وزمنها، يختلط فيها الواقع بالخيال بطابع حلمي، والخيال تجاوز فكرة تتبع الفكرة سواء فكرة الحرية أو فكرة الهروب من اللوحة، لكنه جعل الحياة الثيمة الأساسية، فسعى إلى تخليقها وإعادة إنتاجها. لذا يرسم الشاعر موجودات الخيال بالكلمات وما يضمره من حركة المعنى، حيث الخيال لا زمن له إلا زمنه المتخيل. فالفتاة التي هربت من نص اللوحة المكتوب بالألوان إلى نص القصيدة اعتصمت بالخيال، كأنّ كلّ هذا حدث من قبل أو كل هذا يحدث مرة أخرى، فالشاعر لا يعيد إنتاج خياله بالكلمات، لكن الخيال هنا هو الذي يكتب القصيدة: «قلتُ لنفسي لأشاغلها/ وأنا أبحر في بُحران الغيب/ وأعلم أن سؤالي محضُ خيالْ/ ... لكنْ/ ماذا أفعل بالفكر الجوّال...: «لو أنّ الله تقدّس اسمُه
وعلا جبروته/ وهو القادر أن يخلق ما شاءَ/ كما شاءْ/ خلقَ امرأةً من لحم ودم/ ويدين وعينين / وثغر مشقوق عن شفتين/ كسكّرتين/ ولؤلؤتين/ وشعر أسود فوق الكتفين/ الى الردفين/ وسمّرها في مفترق/ أو بيت/ أو مقهى بين النهرين/ وقال لها: انتظري/ أبإمكان امرأة/ قال لها خالقُها: انتظري/ أن ترحل؟؟».
وشمس الدين مضى بعيداً في التماهي مع اللوحة، رغم أنّه ظلّ وفياً إلى روح الشعر الخالص الذي يشده إليها حبل سري، فهو يقول في أحد لقاءاته: الشعر سر يبحث عن سر. وهذا ما يجعل الشعر غاية بحد ذاته باعتباره «الآخر» (وبوصفه مكملاً للذات فالشاعر بدهشة المسحور هو سر الشبيهين ذاته وشعره، فهو فتان ومفتون بسرب الكلمات ممهورة بالكتابة يبحث عن أعجوبة الشعر وسره الذي يبحث عن سر، رغم أنه موعود بسره: «أن المرأة في لوحة دالي/ يمكن أن تخرج للحريّة/ وتموت هنالك في أي مكان/ فوق الكرة الأرضيّة/ نَسْياً منسيّاً/ من دون إطار/ يحبسها فيه مكوّنُها/ من بدء الخلق/ إلى آخر أيام التكوين».
قد يكون من الكافي أن يفاجئ الشاعر القراء بحقيقة أنهم قرأوا للتو قصيدة أو خيالاً، فهو رفع الفكرة إلى مقامها الأسمى، منتشية بتعويذة الشعر التي ألقيت عليها
الحرية أو «المرأة التي فرت من لوحة سلفادور دالي».
محمد علي شمس الدين
حينَ فتحتُ الألبومْ
ونظرتُ إلى لوحة دالي:
«سيدةٌ تنظر من نافذة مفتوحة»
ألفَيْتُ المرأة قد غادرت الصورةْ
والنافذة المفتوحةْ
ظلت نافذةً مفتوحةْ
قلتُ لنفسي
وأنا أقلّبُ صفحات الألبوم بصمت:
هل يمكن أن يحدث هذا؟
هل يمكن أن تترك سيدةٌ صورتها، وتسيرْ؟
هل يمكن أن ترتحل الألوانُ
كما لو ذابت في ماء دافقْ؟
المرأةُ كانت قد وقفَتْ
أعواماً دون حراكْ
كنت ألاحظ طيّة ثوبيها
فوق الظهر
وحول الجسَد المغزولْ
سَحْبَةَ ساقيها الملتصقين
المنحدرين إلى خفيّها
وقليلاً من قلق الطائر في القدمين
وأراها كلَّ صباح
في وقفتها
سمّرها دالي
داخل سجن
سمّاهُ إطار الصورة
ضَرْبة فرشاة واحدةٌ
وجرى ما سوفَ يكونْ:
قال لها: وجهُك للمجهولْ
وأمامك بحرٌ
فوق البحر شراعٌ يجري
يابسةٌ موقوفةْ / وفضاءْ...
ظهرُك يكشفه، إذ يسترهُ،
ثوب شفافٌ أزرقْ
قال لها: انتظري
فانتظرتْ... / ومضى دالي
لكنّ المرأةَ ما زالت منتظرة...
.....
قلتُ لنفسي لأشاغلها
وأنا أبحر في بُحران الغيب
وأعلم أن سؤالي محضُ خيالْ
... لكنْ
ماذا أفعل بالفكر الجوّال...:
"لو أنّ الله تقدّس اسمُه
وعلا جبروته
وهو القادر أن يخلق ما شاءَ
كما شاءْ
خلقَ امرأةً من لحم ودم
ويدين وعينين / وثغر مشقوق
عن شفتين
كسكّرتين
ولؤلؤتين
وشعر أسود فوق الكتفين
إلى الردفين
وسمّرها في مفترق / أو بيت
أو مقهى بين النهرين
وقال لها: انتظري
أبإمكان امرأة
قال لها خالقُها: انتظري
أن ترحل؟؟
......
أسألُ نفسي
لكني أعلمُ حين أقولُ
ولا أعلمْ / فأنا
حين رأيتُ المرأة ترحل من لوحة دالي
كدتُ أجَنُّ....
فركتُ عيوني بيديَّ
وحدّقتُ مليّاً:
إني أعرفُ هذا الألبوم
أعرفه خطّاً خطّاً
وأقلّب صفحاته
مرّات في اليوم الواحد
وأرى الصورةَ واقفة حيث أراد لها دالي أن تبقى /أوّلَ مرّة
تتأمّلُ من نافذة مفتوحة
في المجهول البحريّ الأزرق
وأنا مفتونٌ
بمشاهد دالي السرياليّة
بالزيت اليرشَحُ من شاربه المعقوفْ
من عينيه الطافحتين بماء الدهشة
لكني ما كنتُ أفكّر أو أتخيّل
أن المرأة في لوحة دالي
يمكن أن تخرج للحريّة
وتموت هنالك في أي مكان
فوق الكرة الأرضيّة
نَسْياً منسيّاً
من دون إطار
يحبسها فيه مكوّنُها
من بدء الخلق
إلى آخر أيام التكوين

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا