رحل محمد رضا شجريان (1940 ـــ 2020). الحناجر البشرية خسرت جوهرة. إيران فقدت صوتها الأجمل. المئات من عشاق الموسيقى طوّقوا المستشفى الذي كان قد نقِل إليه أخيراً، إذ كان شيخ المغنّين يعاني من مرض السرطان الذي أصابه قبل خمس سنوات. احتجزوه بمن فيه وأسروا سيارة الإسعاف التي تنقل جثمان حبيبهم كمن يرغب في منع وضع الصوت الأسطوري تحت التراب. رفعوا صوره وأنشدوا غزليّاته الصوفيّة وأغانيه. كان أجمل ما لديهم، ولم يعُد. هو من أعظم الأصوات في العالم. يتربّع على عرشٍ لا مكان فيه للمواهب العادية. إنه النمط التقليدي الفارسي (وهو جزءٌ من نمط أكبر يتخطى الحدود الإيرانية إلى جوارها في وسط وشمال غرب آسيا) الذي يقيم حاجزاً عالياً من مستوى الأداء، فيغربل المتطفّلين من دون الحاجة إلى لجنة رقابة وأخرى فاحصة. هو لونٌ في أساسه صعب. فإذا كانت أي موسيقى جميلة مليئة بالحياة، فالغناء في تلك المنطقة مليء بالبقاء على قيد الحياة. وأن تكون من شلّة المغنّين التقليديين، هو أن تكون كبيراً بين كبار. وأن تكون شجريان، هو أن تكون كبير الكبار.
يعدّ شيخ المغنّين أحد أعظم الأصوات في العالم

يمكن لأيّ محترف أو هاوٍ أن يضع تسجيلاً من هذا النمط، لشجريان أو غيره، ويرافق الغناء بصوته، على ذات الطبقة، العالية جداً غالباً، ليدرك أن دقيقة واحدة كافية لإنهاك العضلات والأوتار الصوتية وعضلات الرقبة والمعدة والحنجرة، فكيف يصمد هؤلاء الوحوش عند هذه النقطة المتعبة لساعة وأكثر، في أداء شبه مستمرّ، حيث العُرَب في صميم اللعبة (وليست عَرَضية كما في الطرب العَربي)، في نوع من الزغردة شبه المتواصلة؟ كيف؟ كيف يسيرون هذه المسافات على تلال الغناء، كبشر خوارق، كما تكلّم الفيلسوف الألماني نيتشه بلسان زردشت الفارسي في كتابه الشهير؟ أمّ أنهم، هم، جبال، بين جبال تلك المنطقة الجميلة والقاسية من العالم؟ أليس شجريان، كما زميله الأذربيجاني عليم قاسيموف، جبلاً يرسم ملامحه بالصوت أمامنا صعوداً صعوداً حتى نرى القمة الشاهقة ونشهق، لأننا توقعناها مرتفعة، فأتت مرتفعة أكثر؟ يقال إن الفرق في التكوين بين صوت عظيم قوي وجميل النبرة، وآخر عادي هو طفيف جداً على المستوى البيولوجي (الأوتار أو العضلات الصوتية، الحنجرة،…). هذا الفرق لا يمكن أن يكون كذلك في حالة شجريان وأمثاله.
ما يلي من كلام، في هذه المقالة، لم يعد مهمّاً جداً. فعن سيرة محمد رضا شجريان تجدون الكثير على الإنترنت. وعن علاقة إيران، العريقة تاريخياً وغير الصحية منذ عام 1979 بالموسيقى والغناء، وعن مواقف الراحل المناهضة لسلوك النظام إن شذَّ، قبل الثورة الإسلامية كما بعدها، بالأخص أيام أحمدي نجاد، وهو أسوأ ما حصل لإيران موسيقياً، أيضاً الكثير. هذا موضوع يقاربه حلفاء إيران بتبريرات مضحكة، ويقاربه أعداؤها بحقد سياسي مبكٍ، وفي الحالتَين قلّما يكون الهم فنّياً أو جماليّاً أو ثقافيّاً. فبالأمس نعاه السياسيون الإيرانيون، من الرئيس إلى وزير الخارجية وغيرهما، لأنهم يعلمون أن قامة ثقافية وفنية بحجمه، تفرض استثناءً على تقديس «نظريات» الفقه والشريعة وزواريب السياسة. المسّ بالموسيقى، باسم الدين أو الوطن، هو حماقة، ونقطة على السطر.
وفي أول السطر نضيف: الإنشاد الديني هو أمتَن أساس في الغناء. إنها قاعدة تبعها كل الكبار في الإسلام والمسيحية، وكذلك فعل شجريان، الذي بدأ طفلاً بتلاوة الآيات القرآنية. فوالده كان مقرئاً ومنه التقط أول الخيط لدخول عالم الموسيقى. بحث في التراث الموسيقي الفارسي وآلاته. أتقن العزف على السنطور (وهي أساسية في الموسيقى التقليدية الفارسية). أنشد في الإذاعة ثم على مسارح إيران وبعدها العالم. وصل إلى لبنان عام 2010 خلال رحلةٍ عالمية، مع فرقته، «مجموعة شهناز»، فكان أجمل ما حصل في تلك الدورة من «مهرجانات بيت الدين». الآلات المستخدمة في الغناء التقليدي الإيراني (تار، سه تار، كمانجه، دف، تُمبَك، طنبور، سنطور…) حملت المسرح والجمهور على حصيرة صوتية وطارت بالجميع نحو جمال مجهول، يقودنا نحوه ويعرفه شجريان.
مات «الأستاد» (تعني «أستاذ» أو «معلِّم»)، أو «الأستاذ الأعظم» كما كان يلقّبه مواطنوه، وترك لنا: في الإرث العائلي، ابناً اسمه همايون (1975)، وهو مغنٍّ محترف «وصوته أجمل من صوت أبيه»، كما يقال على طريقة المبالغة اللطيفة التي تلجأ إليها الأمهات في حالات كهذه. وفي الإرث المسجّل، ترك ذاك الدعاء التعجيزي الذي يصدح تسجيله في كل بيت إيراني خلال رمضان، «ربّنا» (من سورة آل عمران — وفيه نسمع أداء تجويدياً، مختلفاً عن الغناء التقليدي، وباللغة العربية لا الفارسية)، وعشرات التسجيلات، الحية بمعظمها، التي تحوي ما هو أقرب إلى وصْلات تتخللها مواويل مرسلة مرتجلة أو شبه ذلك ومقاطع موقّعة، في أغانٍ تراثية أو تقليدية الطابع وغزليات صوفية يصبو بها محمد للارتفاع نحو الخالق المعشوق ويكاد يبلغه… فهل بالموت بلَغَه؟













اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا