«ثقافة الأمة موجودة في قلب وروح شعبها». تذكرّت هذا القول للزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي مباشرة أثناء ممارستي لعادتي الصباحية الروتينية. فنجان القهوة وجريدة «الأخبار». عنوانٌ فيها لفتني: «معتقل الخيام نقاش في حمّانا»، وأنا منذ فترة أينما وقعت عيني على موضوع يتعلّق بالمعتقل، يشدّني وأشعر بوجوب متابعته، ليس فقط لأنني ابن بلدة الخيام، بل لكوني المشرف من الناحية الهندسيّة على إعادة ترميمه. مباشرةً قرأت نصّ الخبر، وللأمانة فرحتُ بالخطوة، وقرّرت المشاركة بهدف الاطّلاع على الأفكار المقترَحة، والتعرّف إلى صاحبها، لعلّنا نضيف ما لديه إلى جهود مشروع وأفكار إعادة الترميم.كان فحوى النص على هذا الشكل: «يحتضن «بيت الفنان ــ حمانا»، اليوم الجمعة، نقاشاً عامّاً مع المعمار والباحث أحمد بيضون حول إقامته الفنيّة. تتمحور دراسة بيضون «تتابع الذاكرة عبر البيئة المُستحدَثة» حول مُعتقل الخيام». شرحٌ مبسّط عن الموضوع، وفي الختام تذكير بالعنوان، رقم الهاتف وعبارة «نقاش عام»، تلتها «الدخول مجاني».


قبل التوجّه إلى حمانا بحوالى ساعة ونصف أردتُ الاستفسار أكثر عن طبيعة ما سيُعرض في اللقاء، كون عنوان الموضوع مبهَماً قليلاً، فاتّصلت بالرقم المرفق بالمقال. أجابتني سيدة، وقالت إنها لا تعرف شيئاً عن تفاصيل اللقاء، لكنها سترسل لي «لينك» الدعوة الموجودة على صفحتهم على الفيسبوك، وشجعتني على الحضور، وهذا ما كان.
دخلت صفحة المجموعة المخصّصة لهذا الحدث، وصُدمت بعبارة موجودة في مقطع يعرّف عن اللقاء: «مُعتقل الخيام هو معسكر اعتقال أنشأته إسرائيل في جنوب لبنان عام ١٩٨٥، وهو اليوم يخضع إلى تدخّلٍ سياسيٍّ بغية التلاعب بعمليّة كتابة تاريخه واحتكارها».
- أي تدخل، وأي احتكار؟
هذا مباشرة ما تلفّظته بيني وبين نفسي باستغراب تام، أصررت أكثر على الحضور لمتابعة فحوى اللقاء وهدفه.
ليلاً، توجّهت من بيروت إلى حمانا، وصلت على الموعد تحديداً، الثامنة والنصف تماماً في البهو الخارجي للقاعة، لكنّني فوجئت أنني ممنوع من الدخول!
والسبب أن اسمي ليس ضمن اللائحة الموجودة أمام المعنيين، فأنا لم أحجز مقعداً.
بعد أخذٍ ورد مع الآنسة المسؤولة عن «تأشيرات» دخول الضيوف، تدّخل أحد الأشخاص الذي عرّف عن نفسه بأنّه أحد المسؤولين الإداريين عن بيت الفن، فعشّمت نفسي بأن يستخدم صلاحياته للتصرّف بما تقتضيه الأصول في مواقف كهذه:

إلهام الفرجاني ـ «رسالة إلى فلسطين» (مواد مختلفة على كانفاس ــــ 100 × 72 سنتم ـــ 2002 ــ ملتقى الخيام التشكيلي)



ـــ Sorry monsieur، بعتذر منك، كان لازم تحجز مسبقاً.
ـــ لكن المقال في جريدة «الأخبار» لا يشترط الحجز المسبق..
ـ «نحنا غير مسؤولين عما تنشره صحيفة «الأخبار». واضطرينا ناخد هالإجراءات لأن البلدية فرضت علينا عدد محدود بسبب كورونا.
ــ حسناً، كان بإمكانكم أن تخبروني بذلك، وبأن العدد «فوَّل» عندما اتصلت بكم هاتفياً، حتى لا أتجشّم عناء الحضور ليلاً من بيروت والتعرّض لمثل هذا الموقف.
عندها طلبتُ حضور السيدة التي تواصلت معها على الهاتف علَّها تملك حلّاً لهذا «الموقف العويص».
حضرَت، عرّفتها بنفسي فتذكرتني، لكنها كررت المعزوفة نفسها:
ــ نأسف لعدم السماح لك بالدخول، فأنت لم تقم بالحجز مسبقاً!
ــ لكنني قادم من بيروت، وعندما تواصلت معكِ، شجعتِني على المشاركة في اللقاء، ولم تبلغيني بضرورة الحجز، مع أني تواصلت للاستفسار. أنتم من غفلتم عن فكرة الحجز عندما اتصلت بكم!
ــ أرسلت لكَ «لينك» الدعوة على الفيسبوك، وعلى الصفحة يوجد شرطٌ يفيد بضرورة الحجز.
ــ طيب ليه ما خبرتيني إنو العدد مكتمل وما عاد في مجال لاستقبال ضيوف إضافيين، مع إني تواصلت معك قبل ساعة ونصف فقط من موعد الندوة.
ــ سوري مرة تانية، منعتذر منك مسيو.
هنا استخدمت طلقتي الأخيرة
ــ لكنني المهندس المشرف على مشروع ترميم معتقل الخيام، وأنا أجدر الناس بالمشاركة في النقاش المطروح.

عبد الرحمان سالم ــ «كرسي التعذيب» (أكريليك على كانفاس ـــ 300 × 200 سنتم ـ 2002 ـ ملتقى الخيام التشكيلي)

لكن طلقتي ذهبت «فيشينغ»، فلم يأبهوا لكلّ هذا، بل مُنعت من الدخول منعاً باتاً!
وقفت أمام «بيت الفن» وسألت نفسي: هل أنا حقاً أمام مركز ثقافي وممنوع من الدخول؟!
أين رسالة المراكز الثقافية؟ ما جرى يتناقض مع أدنى آداب ولياقات العمل الثقافي، فعلى حدّ علمي أن الفن ذوقٌ في الدرجة الأولى، وأن الثقافة تواصل وانفتاح وتفاعل، بوابة مفتوحة للجميع، ألم يذكروا في الدعوة أن «النقاش عام»؟
لم أجد إلّا صفحات صحيفة «الأخبار» للردّ على ما جرى، ولأطرح الأسئلة التالية على القيّمين على «بيت الفن»:
1. لماذا تبنَّى «بيت الفن» المصادرات المسبقة بأن تاريخ المعتقل يتم احتكاره والتلاعب به؟ وأين هو هذا التدخل السياسي المزعوم؟ قدِّموا ولو دليلاً واحد على هذه الادّعاءات، بل الافتراءات، إذ لم يصدر حتى الآن أيّ مؤلَّف تاريخيّ أو حتى أدبيّ، عن أيّ جهة، يوثّق تاريخ المعتقل، لكي يُقال بأن تاريخ المعتقل يتعرَّض للتلاعب به. أمّا عن المعتقل نفسه، فإنّ أشغال الترميم لم تبدأ حتى الآن، ولا يزال على وضعيته بعد التدمير.
2. هل يعلم القيّمون على «بيت الفن» أن المعتقل كان مفتوحاً منذ التحرير حتى الآن لكلّ وسائل الإعلام المحلّية والعالمية، من مختلف المشارب السياسية، وكذلك لصنّاع الأفلام الوثائقية المستقلين، لإنتاج ما يشاؤون من أفلام وثائقية عن المعتقل، ولم يتمّ «التدخل السياسي» مع أيّ منهم «للتلاعب» بمحتوى هذه الأفلام؟ علماً أن لا أحد يملك الحق في التدخل أو عدمه من الأساس، لكنّني أطرح ذلك، تجاوزاً، بمعرض الردّ على الفرية.
3. لماذا لم يتم التواصل مع بلدية الخيام، للاستيضاح، قبل إصدار هذه التهم وهي المعنية بمشروع الترميم؟
4. لماذا لم يتم التواصل مع الجمعية المعنيّة التي عملت لسنوات في جمع المعلومات الأرشيفية، والمواد الإعلامية، وإعداد الأبحاث والملفات والتصاميم لإعادة ترميم المعتقل، مع إصرارها على الحفاظ على هويته وروحه وعمارته الأصلية بعدما حاول العدو إزالة أيّ أثر يشهد على إجرامه بحق الإنسانية.
ما جرى يتناقض مع أدنى لياقات العمل الثقافي، فالفن ذوق، والثقافة تواصل وانفتاح وتفاعل، بوابة مفتوحة للجميع


هذه الأسئلة، وغيرها، برسم القيّمين على «بيت الفن» الذين نربأ بهم تسييس منبرهم، منبر الفن والثقافة، على هذا النحو الذي يسعى إلى شيطنة الساعين بصدق إلى حفظ ذاكرة الأسر والاعتقال.
أخيراً، وبعيداً عمّا دار من نقاش «مفتوح» في اللقاء «المغلق»، لا أملك إلا أن أهنئ أصحاب «بيت الفن» على «الذوق الرفيع» لإدارييهم، وعلى «حسن الضيافة» الذي غمروني به، وعلى تصرّفهم الذي كان ينضح «أخلاقاً وكرماً»، لكن أنصحهم بأن يحترموا التقاليد التاريخية للبلدة التي تحتضن مركزهم، بلدة حمانا العريقة، وأن يتعلّموا من أهلها الطيبين والأصيلين، ولو الشيء القليل، من حُسن الضيافة وآداب معاملة الضيوف.

* مهندس معمار والمشرف على إعادة ترميم معتقل الخيام



«بيئة مستحدثة»
جاء على الصفحة الفايسبوكية لـ «بيت الفن» تعريف بمشروع أحمد بيضون (أقيم النقاش يوم 24 تموز/ يوليو) كالآتي: «مُعتقل الخيام هو معسكر اعتقال أنشأته إسرائيل في جنوب لبنان عام ١٩٨٥، وهو اليوم يخضع إلى تدخّلٍ سياسيٍّ بغية التلاعب بعمليّة كتابة تاريخه واحتكارها. ينبغي إذاً على كافة مكوّنات المجتمع أن تعمل فوراً للمحافظة على ذاكرة هذا السجن من تدخلات سياسية متعدّدة تهدف إلى محوه ومراجعته من وجهة نظرٍ منحازة. تستقصي دراسة أحمد بيضون خلال إقامته الفنيّة في «بيت الفنّان» ثلاثة أنواع من مصادر تخزين تحتوي على ذاكرة مُعتقل الخيام:
١) المقابلات مع سجناء سابقين حول الذاكرة الجماعية.
٢) سجلّات بيانات خاصة ببرنامجٍ إذاعيٍّ مُوثّقٍ.
٣) والبيئة-المَبنيّة من خلال استحداث خريطة صوتيّة. بعد استخراج الذكريات، يتمّ تضمينها في البيئة-المُستحدَثة وهي منصّة افتراضية لموقع المُعتقل المُستذكر. كان الدافع وراء هذا المشروع الحاجة الملحّة للحفاظ على بصمات المُعتقل لأنها عرضة إلى التدمير أو التعديل. يقع مُعتقل الخيام على حدود لبنان الجنوبيّة، وتنشط الجهات السياسية في هذه المنطقة الحدودية على الصعيد البنيوي والكهرومغناطيسي. الأمر الذي يزيد من هشاشة ادّعاءات السيادة على هذه الأرض وبنيتها التحتيّة التكنولوجيّة وخطر تعرّضها إلى التلاعب السياسيّ. لذلك، شكّلت شبكة الإنترنت العالمية بديلاً شاملاً لاستضافة التتابع الافتراضيّ لذاكرة مُعتقل الخيام. تسمح البيئة-المُستحدَثة لمُستخدمي الموقع الإلكتروني بالتلاعب بالقيود الصوتية والنظرية بفضل مصادر التخزين الثلاثة ويفسح ذلك المجال لإعادة خلق موقع المعتقل من دون التعرّض إلى حرمة البيئة-المَبنيّة الحالية. تم تقديم تطوّر العمل على الأرشيف في «جامعة دلفت التقنية» كما حصل البحث على منحة من «متحف جميل للفنون». ستُطرح مواضيع إعادة البناء، التدمير، والبيئة-المُستحدَثة في نقاشٍ عامٍ بين سجناء سابقين وفنّانين وأُمناء المحفوظات وعامة الجمهور في بيت الفنان حمانا».