جاد غصن: ما الذي أتى بك إلى الإعلام؟ألبير كوستانيان: (رئيس مجلس إدارة «أل. بي. سي. آي») بيار الضاهر عرض عليّ الأمر (...) لقد أقنعني. قال لي «لبنان سيتغيّر، سيذهب إلى مشاكل اقتصاديّة، سنحكي عن الليرة، عن البترول، عن عجقة السير، عن الكهرباء... إذا أتيت بصحافي، سيحتاج إلى الكثير من الوقت لكي يصبح عميقاً في هذه المواضيع لأنها تحتاج إلى خبرة سنين وإلى ذهنيّة معيّنة، أما أنت فهذا عملك، ولكي أصنع منك صحافياً سيحتاج الأمر إلى أسبوعين».
هذا الكلام ورد في حلقة من البرنامج الجديد الذي يقدّمه جاد غصن عبر تطبيق انستغرام، ومرّ من دون مناقشة جدية. فالإعلاميان القادمان من تخصّصَي العلوم السياسيّة والاقتصاد إلى الصحافة، يبدوان مقتنعَين به، فكيف إذا سمعا تأكيداً عليه من شخصية مؤثّرة في القطاع الإعلامي، جاءت لتخبرهما أنه يمكن صناعة صحافي خلال أسبوعين، المهم فقط هو التخصّص. وفي حالة كوستانيان، التخصّص هو امتلاك العدة المعرفيّة اللازمة للخوض في نقاشات اقتصاديّة.
لكن بما أنّه كلام يصعب تقبّله، تبقى هناك حاجة إلى التأكّد من دقته: هل قال بيار الضاهر ما قاله لكوستانيان مقتنعاً، أم أنها كانت مجرّد حجّة لدفعه إلى الموافقة على عرضه؟
«صحيح»، يقول الضاهر عندما نطرح السؤال عليه وإن لم يتذكّر أنه حدّد فترة الأسبوعين لصناعة صحافي، لكنه يؤكد إجابة كوستانيان: «في هذه المرحلة، نحن نحتاج إلى من يقدّم برنامجاً يدير فيه حوارات مع شخصيات متخصصة في الاقتصاد، لذا يجب أن يكون المقدّم ضليعاً في الأمر».
• ألم تجد بين الصحافيين العاملين في «أل. بي. سي. آي» من يستطيع القيام بهذا الأمر؟
• لا
كذلك لا يجد الضاهر في تبريره اختيار كوستانيان، ولا في إجابته عن السؤال الأخير، استفزازاً للصحافيين العاملين في مؤسّسته: «حتى لو كنت أنا صحافياً، كنت سأجلس جانباً. هناك مصطلحات قد يستخدمها الضيوف وتمرّ من دون نقاش لأنّ الصحافيّ لم يفهم معناها، كما أنه قد لا يُحسن قراءة الأرقام». قد يكون كلام الضاهر مُقنعاً، خصوصاً أن خياره وقع هذه المرة على شخصية فرضت نفسها بثقافتها، لكنه لا يمنع من مناقشة مهنيّة تتعلّق أولاً بوضع الصحافيين عموماً، وثانياً بمعنى التخصص.

الاستثمار في فريق العمل
الصراحة التي تحدّث بها الضاهر عن الصحافيين، لا تخلو من ظلم يصعُب أن يعترف كلّ القيّمين على المؤسّسات الإعلامية أنهم يمارسونه بحق الصحافيين (وهو أمر لفت إليه غصن عندما أشار إلى موازنات المؤسسات التلفزيونية الضئيلة التي لا تسمح للصحافي بالتخصص)، لأن السؤال الذي يجب أن يُطرح في حال كان الضاهر مقتنعاً أن لا أحد من الصحافيين قادر على القيام بمهمة كوستانيان هو: لماذا لم تستطِع «أل. بي. سي. آي» أن تخرّج صحافيين قادرين على القيام بالمهمة التي بحث لها مؤخراً عن مواصفات خاصة؟ كثيرون يعملون في المؤسّسة «منذ وقت طويل» يحتاجه التخصّص، فلماذا لم تصنع «أل. بي. سي. آي» نجمها من فريق عملها، عوض أن تفتش عنه في الخارج؟
الدراسات العلميّة حول الصحافة المتخصصة تؤكّد أن أسباب ضعف الأخيرة وتراجعها غير مرتبطة بالصحافي نفسه، بل بالمنظومة التي يعمل في إطارها، والتي لا تتيح له أن يطوّر ثقافته ويبني ملفه في ظلّ كمّ العمل المُلقى على عاتقه. هذا ما نقوله للضاهر: كيف ستجد هذا الصحافي في فريق عملك، وأنت تطلب منه أن يغطّي تظاهرة صباحاً ويعدّ تقريراً ظهراً، ويطلّ في النشرة المسائية، وحتى عندما يعود إلى بيته قد تطلب منه إطلالة عبر «سكايب». أي صحافي سينجح في بناء ثقافة متخصصة في ظلّ ظروف عمل مماثلة؟
لا يجيب الضاهر على هذا السؤال، طالما أنه يؤكد خياره البحث عن متخصصين بنوا ملفاتهم بعيداً عن المؤسسة، وهو خيار ينوي السير به في حال نجح في إطلاق خدمة «الستريمينغ» (على غرار خدمة «نتفليكس») المؤجلة منذ سنوات. ففي هذا الحالة، سيكون مضطراً لإنتاج 30% من البرامج المتخصصة التي تهتم بها فئات من الجمهور «وسأفتش مجدداً عن متخصصين لإنجازها». وفي محاولة للخروج منه بوعد الاستثمار في فريق العمل طالما أن «السوق» بات يفرض التخصّص، يقول: «لا مشكلة في الأمر، لطالما قامت المؤسسة بتطوير مهارات الفريق، يمكنها القيام بذلك مجدداً».

الصحافي المقاتل
الأمر الثاني اللافت في حديث كوستانيان ما قاله عن بنود الاتفاق بينه وبين الضاهر: «كان بيار واضحاً معي وكنت واضحاً معه، أنا لست «شوو مان» (شخصية استعراضية)، وعملي هو أن أقدّم مادة عميقة للمشاهد بالعمق وبطريقة مناقبية، أي أن لا أصبح صديقاً لفلان وعلان وأمرّر له ما يريد خلال البرنامج». أي أن الاتفاق بينهما جرى على عمل يبتعد تماماً عن كلّ ما علّمت المؤسسات التلفزيونية الجمهور أنه عدّة شغل البرامج الحوارية (الاستعراض، التواطؤ، الأسئلة المثيرة التي لا تنتظر إجابات، الإجابات الفارغة التي تشحن الغرائز الطائفية...) خدمة للرايتينغ ولأصحاب المال. لذا يجوز السؤال: لأي هدف يجري البحث اليوم عن التخصّص؟ وماذا يعني التخصّص؟ هل هو دراسة اختصاص معيّن، وفهم مصطلحاته؟ أم أنه يتطلّب انخراطاً من الصحافي في الملف الذي يخوضه؟
كيف لصحافي أن يتخصّص وهو يغطي تظاهرة صباحاً ويعدّ تقريراً ظهراً ويطلّ عبر سكايب في النشرة المسائية؟


إن البحث عن صحافي متخصّص لتوظيفه يعني حاجة المؤسّسة الإعلاميّة إلى أمرين: تقديم مادة إعلاميّة تُشعر المؤسسة بأنها باتت مطلوبة من (بعض) الجمهور، وتوفير مصداقيّة لها من خلال صحافي موثوق. لكن هذا ليس كلّ شيء، فالصحافي المتخصّص هو غالباً الصحافي صاحب الرأي، ما يتناقض مع ما عبّر عنه كوستانيان في المقابلة من ضيقٍ نتيجة اضطراره إلى «كتم رأيه» في البرنامج. هو محق في التعبير عن هذا الضيق، لأن «كتم الرأي» يتناقض مع غالبية الأدبيات المتعلّقة بالصحافة المتخصصة، والتي تؤكد أنّ من واجب الصحافي المتخصّص تقديم رأيه للجمهور الذي يثق به. لا يكفي أن يفهم الصحافي المتخصّص مصطلحاً علميّاً في حضرة ضيوفه، بل يجب أن يكون قادراً على شرحه للناس، وعلى دفعهم إلى اتّخاذ موقف منه. بهذا المعنى، يجوز القول إن الصحافي المتخصّص هو صحافي مقاتل، يتجاوز عمله فهم المصطلحات إلى إبداء الرأي بنزاهة في الموضوع المطروح. هذا ما تفعله الصحافة المتخصّصة عموماً، وهناك تجارب عالمية تخبرنا عن صحافيين دفعوا حياتهم أو فُصلوا من عملهم بسبب مواقفهم الجذرية المرتبطة بالملفات التي عملوا عليها. حتى الآن، لا يبدو أن هذه هي المهمّة المطلوبة من «التخصّص» الذي يجري الاحتفاء به حالياً، والذي يجب الاحتفاء به في حال صبّ فعلاً في خدمة المواطن. لكن هذا أمر غير مؤكّد، ذلك أن فقدان الثقة بالسياسيين في هذا البلد يسري أيضاً على الوسائل الإعلامية، لا سيما أنّ مشكلتنا في لبنان لم تكن يوماً في عدم وجود صحافيين يفهمون المصطلحات الاقتصاديّة، بل في أن كثيرين منهم فهموا وزيّفوا الحقائق، و«طبّلوا» للسياسات الاقتصادية التي أوصلتنا إلى ما نعاني منه اليوم. والحديث يطول.