تدخل منزله الذي يشبه منازل الدمى. كل ما يحيط بك يدهشك: من فناجين القهوة من كل حدب وصوب، إلى المنفضة التي «خرطش عليها بألوانه»، إلى درجة أنك لا تريد سوى أن تأخذها معك، وصولاً إلى كل تلك اللوحات المعلقة... أخبار وأشكال، وجوه وحكايات، لأناسٍ كانوا أو لخيالات. تسمع ضحكته تصدع في الفضاء. رينالدو صايغ يضحك: على الوقت، وعلى المسلّمات. يضحك للفرح الذي لم نعد نعيشه سوى خلسة. يضحك للأمس والغد، وللحظته تلك، التي لا شيء فيها سوى «كينونته» هو.يرسم. كل يوم. كل الوقت.

لمن؟ لماذا؟
له أولاً. لنفسه التي تشتاق للألوان فترميها رمياً مبهراً على أبيض اللوحة. لنفسه التي لا يمكنها أن تقوم بأيّ عمل آخر، لأن المحتم هو ريشة.
رينالدو ليس فناناً تشكيلياً لبنانياً كما اعتدنا أن نرى. فهو ساخر وغير مبالٍ، يرسم ليعتاش.
ومن يعرفه، يعرف كم زهيد سعر لوحاته، أمام ما نشهده عموماً على الساحة الفنية.
هو يريد للوحة أن تسافر، كارهاً أن يعيدها معه إلى المنزل. أن تسافر لتسكن حيطان آخرين. وكم يفرح حين يرسل إليه أحدهم صورة عن لوحة له، وهي معلقة على حائط إحدى الغرف.

«شبابيك» (أكريليك على كانفاس ــــ 90 × 100 سنتم 2020)


الحجر، ولم لا؟
في بيته الصغير في أحد شوارع مدينة جبيل، انحجر. كما انحجرنا. وخاف كما خفنا، ولكنه خاف بعد أكثر من أولئك الذين لا يخافون. وقد بدأت فكرة المعرض الجديد الذي بدأ في 18 تموز (يوليو)، مع لوحة رسمها عن الأهوال التي عاشتها إيطاليا في الأيام الأولى لاجتياح الكورونا العالم. وقرر أن يستمر في الرسم. أن يستقي أفكاره من المصائب تلك، وأن يحوّلها إلى ألوان ومشاوير. فالموت لا يعلق على حائط، بل ألوانٌ تذكّرنا كم كنا منه قريبين.
«أربعون لوحة ولوحة للحجر» يسلسل فيه رينالدو صايغ مشوارنا والمرض. ليالينا ونهاراتنا وضحكاتنا وقلقنا. وزع كل ذلك بخلطته هو، على أحجام متفاوتة من اللوحات، يعرضها بأسلوبه هو، دائماً وأبداً في جبيل، وتحديداً في «ادّه ياردز».
عشرون عاماً وهو يعيش في بيبلوس. يعانق اسمه المكان، فنرى الجميع يجمع ما بينهما، كجمع طبيعي لحالتين.
«رينالدو وجبيل». يرسم هناك. يعرض هناك. يسكن هناك. تدعوه اليونان إليها دوماً، فيضع شنطة سفر وحيدة على ظهره، ويجوب الجزر التي لا يزورها السياح، يلتقي بالأزرق، يلتقي بالسكينة، ويعود إلى جبيل، يعيش هناك، ويرسم هناك، ونفرح نحن بفضلات تلك الأسفار، منثورة على لوحة.

الثائر
فرحُه مُعدٍ. وغضبُه أيضاً. غاضب حانق على الظلم وكمِّ الأفواه، يصيغ كل ثورته تلك بالألوان دائماً وأبداً.
تظهر الثورة في كلّ ما يقوم به، في أسلوب عيشه، في سفره الخارج عن نمطية السائح، في ريشته التي تحاكي القضايا، كل القضايا.
وفي إصراره على صناعة ما يمكن لأيّ منا، أن يمتلكه. حين قرر في الربيع الماضي أن يقوم بمعرض اسماه حينها «بلووم BLOOM»، جاء وحش الكورونا ليحول دون حدوثه. فقرّر أن يبيع كل لوحاته، بالزهيد الزهيد، من خلال صفحته على فايسبوك.
وحين يُسأل عن الأسعار يجيب دائماً: «أنا اشتريت الألوان بهل قد. ليش بدي بيع عل غالي؟ الناس لازم تفرح انو فيها تمتلك أي عمل فني، بالقليل يلي معها».
وما تبقّى من رسومات معرض الربيع، سيعرضه أيضاً خلال المعرض الجديد، في زاوية مخصصة له.
هل يبغى الربح؟ طبعاً. الرسم عمله، قوته، قوَّتُه ومفتاح سفره. كيف لا يبغى الربح (وهو قليل) إن لم يثابر ـــ رغم مرارة الأيام التي نمرُّ بها ـــ على العمل؟
العمل يحرره من بشاعة كل ما يحيط به، وبنا. يحرّر من الدوغما، من القدر عند البعض، ومن اليأس عند البعض الآخر. ومعرض «أربعون لوحة ولوحة للحجر»، يأتي في سياق هذا التحرر، وهذا الإصرار الفذّ على ألا تقف الحياة ساكنة، أمام انهيار الوطن. على الفن أن يعيش. علينا جميعاً أن نعيش. فنحن مبرمجون على المضي قدماً. فلنتسلّح بالألوان، ولندعَمَ كلّ من أصرَّ على البقاء في هذه البقعة من الأرض، ليجعلها أجمل.

* «أربعون لوحة ولوحة للحجر»: حتى 18 آب (أغسطس) ـــــ «ادّه ياردز» (جبيل)