القاهرة | مكانة محورية وحيوية تحظى بها منطقة وسط البلد في قلب مدينة القاهرة، هي التي كانت ـــ وربما لما تزل ـــ مركزاً رئيساً لتجمعات المثقفين والفنانين والناشطين السياسيين، إلى جانب كونها مركزاً رئيساً للمؤسسات الإعلامية والصحافية ومقار الأحزاب الرئيسية، ودور النشر والمكتبات الكبرى والمقاهي والكافيتريات والبارات الشهيرة. مع ذلك، لم تظهر هذه المنطقة في السينما المصرية بما يعادل أو يقترب من هذه الأهمية، ونادراً حتى ما تم استخدامها كفضاء فاعل ومؤثر درامياً، باستثناء أعمال مثل «الحب فوق هضبة الهرم» لعاطف الطيب، و«إشارة مرور» لخيري بشارة، و«عمارة يعقوبيان» لمروان حامد، و«بنات وسط البلد» لمحمد خان، بالإضافة إلى وثائقي «القاهرة منورة باهلها» ليوسف شاهين، والأفلام التي تناولت «ثورة 25 يناير» التي استقرت في وسط البلد وميدان التحرير.خلال السنوات الماضية، غاب وسط البلد عن الأفلام والدراما التلفزيونية بشكل ملحوظ، ربما بسبب الميل لنسيان أو تجاهل الحديث عما جرى ويجري لوسط البلد من تجريف لمعالمه الثقافية والسياسية. لكن أخيراً ترددت أسماء وصور معالم وسط البلد في بعض الأعمال مثل مسلسل «ليه لأ» (إخراج مريم أبو عوف)، حيث تتحول المنطقة إلى ملاذ الشخصية الرئيسية الباحثة عن الاستقلال وتحقيق الذات، وفيلمي «صندوق الدنيا» لعماد البهات و«يوم وليلة» لأيمن مكرم اللذين يستعرضان عدداً من الشخصيات التي تعيش أو تعمل في وسط البلد خلال فترة زمنية محددة لا تزيد عن يوم واحد في الأول، ويوم وليلة في الثاني.
لفت مسلسل «ليه لأ» الانتباه بفضل شخصياته النسائية وخاصة الشخصية الرئيسية عاليا (أمينة خليل) التي تؤدي دور فتاة ثلاثينية تتمرد ليلة عرسها وتهرب من الزواج التقليدي المفروض عليها. ثم تقرر أن تترك بيت أمها لتعيش بمفردها في وسط البلد لتتعرف للمرة الأولى إلى العالم. وفي وسط البلد، تلتقي بشخصيات متنوعة تبدو غريبة ومهددة للوهلة الأولى، لكنها تبدأ في التآلف معها وفهم عالمها تدريجاً. وبشكل عام، يقدم وسط البلد هنا بإيجابية باعتباره ملجأً للباحثين عن الاستقلال والحرية والفردية في مواجهة القمع والتربية المحافظة التقليدية. ويقدم المسلسل شخصيات أخرى مثل الخالة هالة (شيرين رضا) العزباء الأربعينية التي تحب شاباً يصغرها بعشر سنوات، وتواجه العديد من المشاكل بسبب هذا الحب المرفوض اجتماعياً. ورغم الضجة التي أثارها العمل بسبب شخصيتي عاليا وهالة، إلا أنه ـــ مثل معظم الميلودرامات المصرية في السينما والتلفزيون ـــ يتعاطف مع الحرية بحدود وحتى بدرجة معينة، ويحرص على تقديم نماذج أخرى مرفوضة مثل الفتاة المتحررة الممثلة بسنت شوقي التي تعيش على النمط الأوروبي، ولذلك يتخلى عنها الشاب محمد الشرنوبي ليقع في حب عاليا المتحررة بشروط. من المدهش أن المسلسل لا يختلف كثيراً عن أفلام قدمتها في خمسينيات القرن الماضي ممثلات مثل فاتن حمامة ونادية لطفي وماجدة. مع ذلك، نال قدراً من الاتهامات والتعليقات السلبية من قبل متشددين ومحافظين على مواقع التواصل ووسائل الاعلام!
على أي حال، إذا كان وسط البلد يتخذ هنا مظهراً إيجابياً بشكل عام، نابعاً من تجربة وموقف صانعاته المؤلفة دينا نجم والمشرفة على الكتابة مريم نعوم والمخرجة مريم أبو عوف، فإنّ المدهش من ناحية ثانية هو الرؤية الكابوسية المحافظة للغاية لوسط البلد التي نجدها في فيلم «صندوق الدنيا» (إخراج وتأليف عماد البهات، شاركه التأليف أسامة حبشي)، وهو مشروع قديم تعثّر إنتاجه لسنوات طويلة قبل أن يخرج إلى النور قبل أسابيع.
يقوم «صندوق الدنيا» على «ثيمة» الشخصيات العديدة المتفرقة التي تعيش وتتلاقى خلال فترة زمنية محددة في مكان واحد. يبدأ الفيلم في الريف من خلال شخصية سائق سيارة أجرة ميكروباص (باسم سمرة) ينقل عدداً من النساء إلى القاهرة لزيارة المقابر وأضرحة الأولياء، مصطحباً ابنه الصغير المتلهف لرؤية القاهرة. يحذره الأب من مخاطر المدينة وشرورها، وبالفعل ما يكاد الميكروباص يصل إلى وسط البلد حتى تحلّ اللعنة بركّابه، فيتوه الابن ويُقتل الأب وتتشرد الراكبات. ينتقل الفيلم إلى شخصياته القاهرية، التي تراوح بين أديب وشاعر بائس (خالد الصاوي) تخونه زوجته (فرح يوسف) مع ريجسير، أو وكيل فنانين (عمرو القاضي)، يتاجر بالمخدرات، بينما يسعى الزوج إلى شراء مسدس لقتلها من أحد المجرمين، وهو الذي يقتل سائق الميكروباص أثناء فراره من رجال الشرطة، إلى جانب عدد آخر من الشخصيات مثل رانيا يوسف التي تعمل ممرضة في عيادة طبيب يمارس عمليات الإجهاض (صلاح عبد الله)، ويتزوجها عرفياً لليلة واحدة قبل أن يغدر بها ويهرب. وهناك ممثل البانتوميم الكوميديان أحمد كمال وهو صديق الشاعر الذي يحاول منعه من قتل الزوجة، وهناك الشاب المتأخر عقلياً (علاء مرسي) الذي يحب الممرضة...
يرسم «يوم وليلة» لوحة سوداوية لعالم يلفّه الفقر والفساد والعنف وحالة من السجن لا فكاك منها


أفضل ما في فيلم «صندوق الدنيا» هو نجاحه في تصوير معالم وسط البلد وشوارعه وميادينه والشخصيات التي تتحرك فيه، ويضمّ بعض المقاطع المكتوبة والمنفذة سينمائياً بشكل جيد، ولكن ما يعيبه هو المبالغات في الحوار ورسم الشخصيات ومحاولة استدرار المشاعر بشكل ساذج أحياناً.
مثل «صندوق الدنيا»، ينتمي «يوم وليلة» (تأليف وإنتاج يحيى فكري وإخراج أيمن مكرم) إلى نوعية القصص المتفرقة المتداخلة. تدور الأحداث في حي السيدة زينب والمناطق المحيطة بوسط البلد، ولكن الشخصيات هنا أكثر تنوعاً وجرأة وأقل «سنتمنتالية». يرسم الفيلم لوحة سوداوية كئيبة لعالم تعيس يلفّه الفقر والفساد والعنف وحالة من السجن والحصار لا فكاك منها، من أمين الشرطة (خالد النبوي) الأرمل الذي يعيش مع أمه وابنته المعاقة ذهنياً، إلى الممرضة (درة) التي يرفض زوجها تطليقها وتحاول الإنفاق على ابنها، إلى موظفة الحكومة (حنان مطاوع) المسيحية المعلقة أيضاً، فلا هي متزوجة ولا مطلقة وصولاً إلى البلطجي السارق (أحمد الفيشاوي)...
تعرّض «يوم وليلة» إلى مذبحة رقابية كسيناريو، ثم بعد الانتهاء من صنعه، لتحسين صورة الشرطي الفاسد، وقطع الحديث عن انتشار العنف والتطرف والاضطهاد الديني والفساد وانهيار المستشفيات الحكومية والمؤسسات التعليمية وغيرها من العيوب الاجتماعية التي يعرفها الناس ويتحدثون عنها يومياً، ولكن لا يسمح لها عادة بالظهور على الشاشة إلا بشكل جزئي. وقد استطاع «يوم وليلة» تمرير الكثير من مضمونه، وخاصة الصورة الكابوسية لمجتمع يترنح على حافة الهاوية، ولكنّ آثار التشويه الرقابي ظاهرة في عدد من المناطق في الفيلم، للأسف، لولاها ــ مع بعض الملاحظات القليلة على السيناريو والحوار ــ لكان له شأن آخر.