الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي (1931-2007) لم يكن مخطئاً، حين رفض الموضوعية العقلانية لصالح طرحه مفهوم التضامن الاجتماعي، الذي يمثل الجزء الأهم من مذهبه الفلسفي. التضامن هو نقطة المرجع للمجتمعات، وذلك بالتحديد في كتابه «الموضوعية، النسبية، والحقيقة» الذي يشرح فيه مفهوم التضامن بأسلوب فلسفي رشيق وجذاب، ومفنّداً فيه موضوعية زائفة طغت على التفكير النخبوي لعقود، مؤكداً أنه في حال تمّ أخذ آراء الأميركيين المعاصرين تجاه اليأس والبؤس اللذين يواجههما شباب أميركا في الأحياء الفقيرة من المدن الأميركية، فهل سيكون تعاطفنا أو مساعدتنا لهم بدافع الشراكة الإنسانية؟ أم ستكون مساعدتنا لهم بوصفهم مواطنين وشركاء في الوطن؟من وجهة نظر هذا الفيلسوف الإصلاحي المؤسس للبراغماتية الجديدة، فإنّ الأَولى أن تكون مساعدتنا تحت عنوان الأمل. الأمل في التضامن الذي يحتاج له الشعب الأميركي داخلياً، لأن مساعدة الآخرين تحت عنوان أنه واحد منا، هو إحساس أقوى وأكثر تجاوباً من أيّ دوافع أخرى يكون فيها الشعور بالتضامن أضعف وأقل. إنّ ضمير «نحن» يعني شيئاً أكثر محلياً من عموم الجنس البشري.
وجد كثير من المراقبين، أن في طرح ريتشارد رورتي لمفهوم التضامن، ما يعدّ تقدماً علمياً أخلاقياً، وأنّ هذا التقدم هو في اتجاه التضامن الإنساني الأكبر، لكن ليس على خلفية ذات جوهرية للإنسان مشتركة في كل الكائنات البشرية، بل ينظر إليها رورتي كقابلية لرؤية أنّ اختلافات أكثر تقليدية مثل القبيلة والدين والعرق والتقاليد وما شابه ذلك، هي اختلافات غير مهمّة متى قورنت مع تشابهات بين بني البشر، مثل احترام الألم ونبذ القسوة. بل هي قدرة على التفكير بالناس على اختلاف شاسع عن ذواتنا وكما هو مدرج في مجموعة (نحن)، وأن هذه الأوصاف التفضيلية للاختلافات التي تخصّ نبذ الألم والاضطهاد والإذلال، هي مساهمات ثقافية أولية حديثة للتقدم الأخلاقي. يذكّرنا كلام ريتشارد رورتي بانطلاقة الفيلسوف إيمانويل كانط التي أتت من أفضل الدوافع الممكنة لديه من أجل تقدم أخلاقي، ومن سبيل تسهيل أكثر من عملية تطوّر كانت تجري في عصره، كتقدّم المؤسّسات الديمقراطية والوعي السياسي العالمي. لكنّ كانط اعتمد العقلانية، والالتزام الأخلاقي، واحترام العقل، والجوهر المشترك في الإنسانية جمعاء، ولم تكن دوافعه منطلقة من التشديد على ترك القسوة وتجنّب الألم والإذلال، فوفق رورتي، إنّ مشاعر التعاطف ضدّ التعرض للقسوة والاضطهاد تجعل مبدأ الاحترام العقلي لدى كانط أمراً مشكوكاً فيه.
يتبنّى رورتي فكرة نيتشه حول الميزة التاريخية المحتملة لمعنى الالتزام الأخلاقي. إنّ التركيز على الخيال ليس خطأ، إن كان من أجل كائن مخترع، عوضاً عما اعتقده كانط الكائن الذي يحمل ميزة العقل البشري. لذا، يجد أنّ أفضل طريقة لتطبيق شعار «لدينا التزامات تجاه البشرية»، هو ببساطة العمل على توسيع شعورنا بضمير «نحن» و«منّا» بكل جهدنا، وذلك من خلال المحافظة على تذكير أنفسنا بهذا الشعار.
يحثّ ريتشارد رورتي على استقراء أبعد من ذلك الاتجاه الذي وُضع خلال أحداث تاريخية معينة، في إشارة إلى شعار كانط، أخلاق الواجب. إنّه تضمين كلمة «لنا» للعائلة ثم للكهف، ثم للقبيلة، ثم للكونفدرالية القبلية، وصولاً إلى ما وراء البحار...علينا أن نقوم بهذه العملية باستمرار، وأن نبقى على اطلاع ومقربة من الناس المهمشين، الذين لا نزال نفكر بهم بوصفهم «هم» لا بوصفهم «منا»، وملاحظة أوجه الشبه بيننا وبينهم (راجع كتاب ريتشارد رورتي «العرضية، والسخرية، والتضامن» ـــ 1989). وهي، بحسب هذا المفكر الأميركي، الطريقة التي تحث على خلق معنى أوسع للتضامن مما لدى الشعب الاميركي في الوقت الحاضر. إن الخطأ هو إدراك هذا التضامن بوصفه موجوداً بشكل سابق على اعترافنا به، أو إدراكنا له. فلا يوجد أمرٌ مشكوك بصحته أكثر من قيمة الحريات في حياتنا العامة، وعلى ما يصف، الجانب العام في حياتنا. أما في الجانب الخاص، فقد يكون هناك الكثير مما يساوي قساوة الشك في الحياة العامة، ويتجسّد ذلك في حبنا أو كرهنا لشخص ما، أو حاجتنا لتنفيذ مشروع ما على المستوى الخاص. في النتيجة، يقدم رورتي مفهومه للتضامن بوصفه بديلاً من الانسجام الكوني الذي فقد معناه في الفلسفة الغربية، ويطرحه بديلاً أخلاقياً وسياسياً للموضوعية وللطبيعة الإنسانية المشتركة التي قادت إلى أنظمة شمولية تساند الايديولوجيات الاستبدادية. بل إنّ التضامن مع الأقران وتعميق الحس مع معاناة الناس الذين يتعرضون للإذلال المؤسساتي والتعاطف معهم، وهي مهمة يوكلها للصحافيين والمثقفين، هو التقدم الحقيقي للمجتمع الليبرالي. وهذا التضامن الذي يدعو له رورتي ينطلق من الوطن ويتوسع بالتدريج. تضامن يحققه مجتمع ديمقراطي يرفض النظر إلى أنّ بعض الكائنات البشرية سادة الطبيعة ـــ في إشارة إلى الأميركيين البيض المتطرفين ـــ والآخرين «عبيد»، أو أن بعض الناس أخيار وآخرين برابرة لا يمكن إصلاحهم.
ولطالما كرر في أكثر من مؤلف، أنّ هذا الطرح هو السبيل الوحيد لتجنّب استدامة الفظاظة والإذلال داخل المؤسسات الاجتماعية في مجتمعه الليبرالي والأميركي على وجه الخصوص. مؤسسات كانت تُعدّ المبادئ الأساسية لانطلاقة الليبرالية الحقيقية، وفق تعبيره، وأنّ أهم تحدّ يواجه علماء الاجتماع اليوم من أجل المحافظة على مكتسباته المؤسساتية، هو تنشيط المفاهيم الاجتماعية التي تغط في سبات عميق، والتي تركز على أهمية الأخلاق للعلوم الاجتماعية ودورها في تعميق إحساسنا بالمجتمع والإمكانيات التي يوفرها هذا الإحساس («العرضية، والسخرية، والتضامن»).
راجت أفكار ريتشارد رورتي الفلسفية منذ تسعينيات القرن الماضي، وخضعت طروحاته لأخذ وردّ واسعَي النطاق، على الساحة الفكرية الأميركية كما الأوروبية على حد سواء. وحظيت بمؤيّدين، كما واجهت معترضين، إلا أنّ ما اتّفق عليه الجميع في تقويمهم لأطروحة التضامن، هو في مطلب استرجاع القيم الليبرالية التي يعتبرها العمود الفقري للمحافظة على المجتمعات الحديثة، كفضيلة التسامح والتنوع والحرية يواجهون بها ليبرالية متوحشة. وقد ألقى مسؤولية تعميق مفهوم التضامن في المجتمعات بالإضافة إلى توسيعه، بوصفه واجباً أخلاقياً، على المثقفين الأكاديميين الأميركيين الذين يستطيعون المساهمة في إحياء وتقوية هذا الإحساس في المجتمع، بعدما فشلت كل الفلسفات في اكتشاف أسس موحدة لطريقتها في الحياة، وبالتالي إيجاد حلول لأزماتها المستعصية. فرورتي ينعى الأسس الفلسفية التي قامت عليها الليبرالية العقلانية الغربية برمتها، وإن كانت أطروحته تذهب إلى المحافظة على بعض المكتسبات، وأهمها المؤسسات العامة، وتدعو إلى ترك ما هو غير مفيد وإن كان ضرورياً في عصر التأسيس.
مكاسب الأميركيين السود، والملوّنين، والمثليين، سوف تمحى، وسيعود ازدراء المرأة وسماع كلمة زنجي في مكان العمل


ظلّ رورتي يدعو الليبراليين الحقيقيين، إلى امتلاك القدرة على خلق الالتزام بالتضامن الإنساني، وكأنه يرى مشهد اليوم الذي يخلو من هذا الالتزام. ودعاهم إلى فصل طموحاتهم عن الهياكل الفلسفية المجردة والمتجذرة وصولاً إلى التحرر من العقد الاجتماعي الكلاسيكي المتهالك، وكافة الرؤى للحقوق الطبيعية برمتها. إن مجال التضامن عند ريتشارد رورتي كما يظهر في مؤلفه «العرضية، والسخرية، والتضامن»، هو أن تكون القيم العليا فيه للمواطن العام، الشخص المنخرط في الخطاب العام المشترك حول طرق تحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق التضامن على اوسع نطاق.
لقد وجد رورتي، منذ أكثر من عقدين، أن تمسّك المحافظين الأميركيين بعالم الاقتصاد بوصفه عالماً من الليبرالية والاستقلالية في الإبداع، يفتقر إلى العدالة نتيجة حصر الثروة بين أفراد من الرأسماليين. وفي المقابل أيضاً يطالب اليسار بتدخّل الدولة في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية وتوزيع الثروة لتأمين المعيشة الإنسانية اللائقة، ومعالجة التفاوت الاقتصادي الحاصل بين طبقات المجتمع... كلها مطالب ضرورية، إلا أنّ دونها مخاطر، خصوصاً في ما هو واقع الحال في المشهد السياسي الراهن في المجتمع الأميركي. ولعل صعوبة التوافق بين مطالب المحافظين أو الديمقراطيين واليسار الأميركي بشكل عام، دفعت رورتي للجوء إلى إرضاء التفكير المواطني المضطهد والمعارض لمواقف صنّاع القرار والسياسيين بشكل عام، والذي بدأ يخسر مكتسباته الليبرالية شيئاً فشيئاً، مما عدّه رورتي خسارة للمحافظين والديمقراطيين معاً، بل يهدّد المجتمع الأميركي بأطيافه، كافة أطيافه. وفي كتابه «تحقيق بلادنا، الفكر اليساري لأميركا القرن العشرين» (1998) الذي عاد ليتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً بعد وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، يعبّر المفكر عن خيبة أمله: «(...) سوف يحدث شيء ما، سيقرر الناخبون أن النظام قد فشل، ويبدأ البحث حول رجل قوي (...) يتم انتخابه لمرة واحدة فقط (...) هو على استعداد للتأكيد أنه بمجرد انتخابه، فإن البيروقراطيين والمحامين البائسين والسماسرة سيختبئون (...) وعندما يتولى منصبه، لا أحد يستطيع أن يتنبأ بما سيحدث». وفي مكان آخر من الكتاب نقرأ: «(...) إن شيئاً في النظام الحاكم لأميركا قد تصدع، وفتح المجال أمام يمين شعبوي قائم على التجميع (...) هذا المأزق الرئاسي سيكون كارثة على البلاد والعالم، سوف يتساءل الناس لماذا لم يكن هناك مقاومة تذكر لصعوده الواضح؟ (...) إلا أن المحتمل حدوثه جداً هو شيء واحد: إن المكاسب التي تحققت في السنوات الأربعين الماضية من قبل الأميركيين السود، والملوّنين، والمثليين، سوف تمحى، سوف يعود ازدراء المرأة من جديد (...) مرة أخرى سيتم سماع كلمة زنجي (...) في مكان العمل، وكل السادية التي عمل على منعها اليسار الأكاديمي، وجعلها منبوذة وغير لائقة من قبل طلابه، ستعود إلى الظهور والهيمنة (...)».
فهل كان لرورتي هذه الرؤية العميقة حتى تعود خطاباته التي ألقاها في جامعات نيويورك، والتي كانت تزعج أكثر السياسيين، لتتصدر مواقع التواصل الاجتماعي بعد حوالى ثلاثين عاماً؟ أم أن للفلاسفة القدرة على التنبؤ فعلاً؟

* باحثة لبنانية