ربّى شوقي بزيع (1951) جملته الشعرية في كنف الوزن والإيقاع. بدأ ذلك كخيارٍ أسلوبي وحساسية معجمية منذ باكورته «عناوين سريعة لوطن مقتول» (1978)، وتواصل ذلك، مع تعديلات طفيفة في المجموعات التالية. تخففت جملته من الفصاحة السلبية، ومن الانطباعات غير المرنة التي تبثها الجزالة اللغوية وبلاغاتها التقليدية، ومن الصوت العالي وجلبة الأفكار الكبرى، لكنها ظلت جملة إيقاعية تبدأ من دندنة أو غناء داخلي يتعالى ويستوي لاحقاً.
الإيقاع هو جلد لغوي في النهاية، وهو طريقة الشاعر في مداهمة الكلمات واستدراجها إلى أرضه الشعرية، إلا أن ذلك لم يُنجه من القلق على جملته من نفاد الاحتياطي الممكن للمكونات الإيقاعية فيها، وهو ما جعله، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بتطور الشعر عموماً، يبحث عن استثمارات شعرية أخرى، وعن طرق لإنعاش الإيقاع والغناء والتصاعد الدرامي الذي تغذت عليه قصائد مجموعاته الثلاث الأولى. صمت الشاعر خمس سنوات تقريباً، وعاد بمجموعة رابعة هي «وردة الندم» (1990) التي خفت فيها أصوات الإيقاعات، واقتربت أكثر من المعاني التي تتحرك في أحشاء تلك الإيقاعات، ولكن الانعطافة الأقوى جاءت في مجموعته الخامسة «مرثية الغبار» (1992)، ولعل العنوان نفسه بدا مثل إشارة حاسمة إلى أشغال معجمية وتأملات فلسفية من نوع مختلف. ترافق ذلك مع تقريب الجملة الموزونة من مناخات النثر، وحفّ الاستعارات التطريبية مع حيادية النثر والسرد اليومي. الشاعر نفسه قدم لاحقاً شهادة عن ذلك في كتابه «هجرة الكلمات» (2008)، وكانت مفردة «هجرة» تأويلاً لتلك النقلة الأسلوبية التي حدثت داخل نبرة الشاعر ذاتها. قوة هذه النقلة موجودة في حدوثها داخل الموضع الذي بدأ فيه الشاعر الكتابة. كان ذلك نوعاً من هجرة داخلية منحت قصيدته عمراً إضافياً ورئةً أوسع كي تتنفس فيها بعمق. هكذا، بدأت استرسالات النثر ومُهملاته تتسرب إلى قصيدته، وتخلق نوعاً من الهدنة أو التسوية مع الإيقاعات. صار السرد حاضراً أكثر، وصارت القصيدة ذاتها تحتوي على خيط قصصي عادي، ولكنه مرويٌ بالتفعيلات.
داخل هذا الصورة الكبيرة، حدثت تفاصيل أصغر في الموضوعات، وفي استعداد المخيلة لما ينتظرها من أعمالٍ إضافية على الصور والاستعارات وبناء الجملة والانتقالات الصامتة بين السطور. لم يتخلص صاحب «فراديس الوحشة» من مستلزمات الوزن والعروض، بل إنه عاد أكثر من مرة لكتابة قصيدة فراهيدية كاملة، لكنه عثر على طريقة لجعل علاقته بالسرد والوزن جزءاً من فنه الشخصي ومن مزاجه في الكتابة.

السرد المدسوس في القصيدة يقودها خِفيةً، بينما الغناءُ والإيقاع طافيان على السطح


مجموعته الأخيرة «فراشات لابتسامة بوذا» (دار الآداب) هي خليط وخلاصة لهذه التوصيفات التي تُظهر افتتان الشاعر بزمنين شعريين، فهو لا يكفّ عن السعي إلى توطين مذاقات سردية حديثة في قصائده، ولا يكفّ - في الوقت نفسه – عن الإصغاء إلى التراث الراسخ للعروض. في قصيدة «تأليف 2»، نقرأ جانباً من هذا الافتتان المزدوج: «ألَّفتُ غيماً للقصيدةِ داكناً/ وكمنتُ للمطر المطلّ على المعاني/ من علوٍّ شاهقٍ/ لكنني لم ألتمسْ نُذُرَ الشتاء/ ولم أقعْ إلا على الشّبهاتِ/ خاليةَ الوفاض من الحنوِّ/ ولم أجد إلا انتظاراتٍ/ تغصُّ بما تلبّدَ من طواحين الكلامِ/ من الزّؤان/ فرحتُ ألهثُ دون جدوى/ خلفَ ما ادّخرتْهُ لي من أضلعٍ مفقودةٍ سُحُبُ البلاغةِ». السرد المدسوس في القصيدة هو الذي يقودها خِفيةً، بينما الغناءُ والإيقاع طافيان على السطح، ولذلك تمرّ صورٌ مثل «لكنة الأعشاب تحت ندى الصباح»، و«أقنعتُ العباراتِ التي ضجرت من التكرار/ أن تتبادل الأدوار مع أضدادها». القصيدة تقول أشياء أخرى ربما، ولكنها تسمح للقارئ بالتسكع في الفناء الخلفي لورشة الشاعر، والتعرف على تقنياته وممكناته الأسلوبية واللغوية. ممارساتٌ مثل هذه تتصل بصورة الشاعر المعاصر، ولكنها تتغذى من أسئلة الشاعر العربي القديم أيضاً، إذ يمكن وضع القصيدة تحت صدر البيت الشهير لعنترة العبسي: «هل غادر الشعراء من متردّمِ».
الواقع أن هذا المثال يعزّز تأرجح تجربة شوقي بزيع بين زمنين، إذْ نجد لديه شغفاً آخر بالغرضية الشعرية، وهو ما يلوح في المرثيات الكثيرة التي كتبها الشاعر، ومنها اثنتان في المجموعة الجديدة عن غياب والده، وثالثة عن رحيل الشاعر السوري زهير غانم، إضافةً إلى رثاءات الذات المدفونة في طيات قصائد عديدة حملت أسئلة وجودية لها علاقة بالتقدم في السن والحنين إلى الطفولة، وهو ما نقرأه في قصائد «ألزهايمر»، و«رائحة الصابون»، و«حياة افتراضية». الأخيرة تبدأ بما يشبه اللحظة الطللية في الشعر الجاهلي: «كمنْ يستقّطُ من قاعِ بئرٍ/ قلامةَ ضوءٍ هزيل/ تعاودني دائماً برهةٌ (ربما لا وجود لها)/ برهةٌ تتبدّى ليَ الآنَ/ مثل أضاليل مستلّةٍ/ من شريط التداعي الطويلْ/ هكذا أتخيّلُني واقفاً/ ذات صيفٍ/ أراقبُ من شرفة البيت منحنياتِ الجبالِ/ التي سوف تغدو بداعي الغيابِ/ أقلَّ اعتداداً بتكوينها الصّلبِ/ فيما بعيداً على سُرحةِ الأفقِ/ يمضي قطيعُ خرافٍ/ ليجترّ عشبَ الوجود العليلْ».

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




مجاراة النثر

في بعض قصائده، يبدو شوقي بزيع كأنه يخوض نوعاً من المجاراة الخفية مع الحساسيات التي وصلت إليها شعريات النثر، ولكنه لا يقدم إلا تلك التضحيات التي لا تهدِّد هويته ونبرته كشاعر ينتمي إلى صورة أسلافه الذين كانوا صوت القبيلة والجماعة. لقد سبق له أن قال إن النماذج العالية لقصيدة النثر وضعته «أمام نوع آخر من الجمالية الرّحبة التي تعتمد الكثافة والإيحاء والتوازنات الإيقاعية والبصرية المدهشة»، وهو لا يزال منتبهاً إلى الهدايا التي يقدمها له النثر والسرد كي تكون قصيدته الموزونة ملموسة ومعفاة من التهويم والتفجع البلاغي، الذي عادةً ما يضيع في الترجمة إلى لغات أخرى. ولو قرأنا قصائد بزيع بلغة أخرى، حيث الوزن لا ينتقل في الترجمة، لرأينا أنها تبدو قريبة جداً من أي قصيدة نثر.