تونس | إزاء سردية جديدة تعبّر عن حالة فكرية أخرى، عن موقف من قضية، وعن ثورة على النظم بتجلياتها كافة، صارت الموسيقى شكلاً من أشكال الاحتجاج الجمعي وثورة على الواقع تسلّط الضوء على ما يعيشه الإنسان المعاصر من اغتراب وعنصرية وفقر واستبداد.لذلك، فإنّ لتوثيقها أهمية كبرى لامسها بعض المخرجين العالميين في إنتاجات درامية وسينمائية، فيما ظلت المحاولات العربية خجولة. لعل هذا ما قاد إلى ولادة فكرة تصوير مسلسل عن الهيب هوب من توقيع المخرج إلياس بكّار. المشروع يحمل عنوان «الموفما» (أي الحركة أو الحركية)، وهو عبارة عن سلسلة تلفزيونية ستمتد على ثلاثة مواسم (2021/ 2022/ 2023) تصوّر عالم الهيب هوب في تونس والمغرب العربي والمشرق.
Something from nothing وHope وBattle أفلام كثيرة عن الهيب هوب، إلى جانب باقة من المسلسلات على غرار المسلسل الكوري «مدرسة الهيب هوب» وN.W.A وغيرهما من الإنتاجات التي اكتست إلى جانب التوثيق والتأريخ، بُعداً جمالياً فنياً ليحدث التزاوج بين هذه الفنون إبداعات ظلت راسخة في الأذهان.
الياس بكار خرّيج المعهد الحر للسينما في باريس وصاحب فيلمَي «باكستان» و«حائط مبكى» اللذين حصدا جوائز في مهرجانات عالمية، راودته فكرة التوثيق لفن الهيب هوب في تونس والمشرق ضمن مسلسل سيتحوّل إلى عرض فني يجول المهرجانات الصيفية. ينطلق المسلسل في موسمه الأوّل من عالم الهيب هوب في تونس، فيما يضيء في موسمه الثاني، على تجارب فنون الشارع. ويتضمّن موسمه الأخير عرضاً لثقافة الهيب هوب ومدى تأثيرها في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. اقترنت بدايات المخرج الياس بكار بهذا النوع من الإنتاجات. إذ أسس حين كان شاباً مع المخرج والممثل محمد علي بن جمعة فرقة Creation Staff، ولعله من المشاريع التي تشجعه اليوم على إعادة خوض غمار تجربة عالم الهيب هوب. يشارك بكار التجربة مع خمسة مخرجين هم: محمد علي النهدي، زياد لتيم، أسامة عزي، آمال قلاتي ووداد الزغلامي ومدير التصوير محمد المغراوي بالتعاون مع مجموعة من كتّاب السيناريو.
أضاء مسلسل «نوبة» على قصص تغنّى بها فن المزود، وهي نابعة من المدن العتيقة والأحياء الشعبية


بدأت ثورة النوطة الموسيقية بانتقالها من المعابد والكنائس والبلاطات إلى الموسيقى العقلانية. أمر لحِظه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتابه «الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى»، حيث دافع عن فكرة أن تطور الموسيقى وبلوغها الشكل الذي كانت عليه وقتها، ما كان ليتحقّق إلا بفضل التحولات التي عاشتها المجتمعات في أوروبا آنذاك من نهضة علمية وفكرية وسياسية وفنية، وضعت أسساً علمية للموسيقى، وكان من روادها موزار وفاغنار وبيتهوفن وغيرهم. بناء على ذلك، فإنّ تطوّر المجتمعات في الاتّجاه الإيجابي من نهضة فكرية، يخلق ثورة داخل الموسيقى نفسها، ما مهّد في مراحل تاريخية وفكرية لبروز أنماط تمرّدت على الموسيقى الكلاسيكية كالبوب والراب وغيرهما، وتجاوزت أدوات التعبير في حركات التجديد هذه الآلات الموسيقية نحو عروض فرجوية كان الرقص عنصراً أساسياً فيها.
ظهرت ثقافة الهيب هوب للمرة الأولى في سبعينيات القرن المنصرم في مدينة نيويورك. ومع حلول نهاية العقد، انتشرت في الولايات المتحدة وتطوّرت أساليبها.
رغم قدم هذه الموسيقى، إلّا أنّه لدى العودة إلى البحث والتمحيص، لا نجد آثاراً مكتوبة توثق لبداية الهيب هوب في تونس أو في المشرق. إذ تكتفي المقالات المتوافرة باستعراض تاريخ فرقة أو مغنٍّ أو تلخيص فكرة أغنية.
ولعل مردّ ذلك أن هذا النوع من الفنون كان مرفوضاً أول الأمر لما اقترن به من طرق لباس ورقص، اعتُبرت وافدة وهجينة على مجتمعات محافظة ومنغلقة تأبى التغيير. في حقيقة الأمر، يبدو أنّ تونس شهدت فكرة التوثيق للموسيقى، مع مسلسل أثار ضجة هو «نوبة» (2019) لمخرجه عبد الحميد بوشناق ابن الفنان لطفي بشناق وصاحب فيلم «دشرة» وهو أول فيلم رعب في تونس. كان «نوبة» عملاً درامياً سافر بالمشاهد نحو سنين ماضية وثقتها الذاكرة الشعبية الجماعية، وتغاضى عنها النظام السياسي والإنتاجات الدرامية. إذ يوثق المسلسل لقصص تغنّى بها فن المزود، وهي نابعة من المدن العتيقة والأحياء الشعبية بما تحمل بين طياتها من تاريخ القمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي أيضاً. لم يتوقف العمل عند هذا الحدّ، إنما تجاوزه ليروي تاريخ مافيات التسعينيات في تونس، وأشهرها تلك التي كان أحد رؤسائها شقيق الرئيس آنذاك زين العابدين بن علي.
يحسب لهذه الأعمال ومنتجيها، أنها كانت من ناحية أفكار رائدة، ومن ناحية أخرى سلطت الضوء على جماليات الموسيقى المثقلة بالرفض والتمرد والمدججة بهواجس التونسي والمؤرخة لحقب سياسية واجتماعية، ذلك أن هذه الأنماط الموسيقية هي أيضاً ثورات فكرية ومحاولات للتغيير والوقوف أمام عنف الدولة.