آخر ما يعنينا في نصّ سليم بركات عن محمود درويش (محمود درويش وأنا) المنشور في «القدس العربي» قبل أيام (6 حزيران/ يونيو)، إفشاء سرّ أبوّة الشاعر الفلسطيني الراحل لطفلة من امرأة متزوجة (!). هذا أمر يثير بلبلة بالنسبة إلى مشاهير آخرين. ليس محمود درويش عبد الحليم حافظ، وليست المرأة المجهولة سعاد حسني، كي نقع على صيدٍ ثمين يملأ عطش مواقع التواصل الاجتماعي لفضيحة من هذا العيار الثقيل. مقاصد سليم بركات، كما نظنُّ، تقع في خندقٍ آخر: استيقاظ الابن الضال على ما سكت عنه طويلاً، فهو لم يعد ابن الثانية والعشرين الخجول الذي التقى الشاعر الكبير في بيت أدونيس عام 1973. نصّ سيميائي بامتياز محمول على التأويل، في كل عبارة، في كل إشارة، وإذا بـ«بياض الهدنة» يتحوّل إلى «سواد هدنة»، وصلح على مضض. موافقة وإنكار لصداقة طويلة جمعت الشاعرين، لكنها لا تخلو من فخاخ مُحكمة يبثها الشاعر الكردي بجرعات مضبوطة. ما إن نتكئ على جملة مديح للصديق الأبدي حتى يصادفنا بعد خطوات لغم مزروع بمهارة على جانب الطريق، وأحياناً في وسطه بفتيل من طلاسم. قصيدة «ليس للكردي إلا الريح» التي أهداها محمود درويش لصديقه وألقاها في منبر دمشقي، كانت، بتأويلٍ ما، مجرد حلوى، فوق المائدة الباذخة لسليم بركات. المائدة المكتفية ببلاغتها، بمنفى صاحبها، من دون رنينٍ في الأوزان، أو رافعة مثل قضية الشاعر التي أنهكت ورفعت مقام قصيدته إلى الشهرة، الشاعر الذي «ولد بملعقةٍ في فمه نِصْفٍ من ذهب الشعر قضيَّةً آسِرَةً، ونصف شهرةٍ مجتاحة»، فيما يعيش الصديق عزلته في صداقة السناجب الاسكندنافية «يهجس الآن فلا يهجس إلاَّ بالطهو: قصيدة نهاره المرئية. وأنا أعترف أنني أطهو على نحو لا يُقلقُ الطهوَ، أو يَغيظُه، أو يَهينُه. أُبقي الطهوَ كريماً، معافىً بين يديَّ، مُذْ أدركتُ أن لا فرقَ بين مَرَقِ اللحم ورباعيَّةٍ؛ ولا فرقَ بين نشيدٍ ودجاجة محشوَّة أرُزّاً وصنوبراً؛ ولا فرق بين ملحمة وشواءٍ لحمٍ مُنكَّهاً بخيالِ الأفاويْهِ إحدى عشرة ساعة: الحياة قِدْرٌ، أو فحمٌ؛ على أجسادنا توابلُ العَدَم القويَّة». هكذا يطهو سليم بركات وجبة دسمة مشبعة بالألغاز والفخاخ، إذ يتفوّق مرق اللحم الذي يطهوه بمهارة على «رباعية»، ويخسر «النشيد» أمام دجاجة محشوة بالرز والصنوبر، وتتراجع قيمة القصيدة المكتوبة عنه إلى مستوى «خاطرة».
موافقة وإنكار لصداقة طويلة جمعت الشاعرين، لكنها لا تخلو من فخاخ يبثها الشاعر الكردي بجرعات مضبوطة


هل ما كتبه مرثية لصديق غائب، أم كشف حساب متأخر من الخسارات؟ مهما يكن، فإن عملية الهتك هذه حمّالة أوجه تطيح قدسية شاعر لطالما كان فوق الشبهات النقدية من جهة، وتعلن استقلالية شاعر آخر اخترع إقليمه بإزميل غير قابل للكسر! أما الصورة الفوتوغرافية التي جمعتهما، فليست أكثر من ذريعة طارئة لتظهير صورة أخرى كانت متوارية، وفضيحة مؤجلة. ليس سليم بركات، وفقاً لنصّه المخادع مجرد حرف «سين» كما ورد في «ذاكرة للنسيان»، هو الذي ذكر محمود درويش في قصيدة عنه باسمه الكامل «دحرجني في السطورِ السوادِ الغاضب عشرين صفحةً، ودحرجني في البياض الغاضب بين السطور عشرين صفحة، بالحرف الأول من اسمي «س». وواكبتُه بالحروف كاملةً في اسمه أربعَ عشرة صفحة من قصيدتي فيه، قبل ثلاث وعشرين سنة» يقول.
ولكن مهلاً، هل أخطأتُ التأويل، ربما!