بغداد | الواضح أنّ العراق بلد للموت المجاني الرخيص، برغم إصرار أهله على الحياة والتشبّث بها على نحو غير معهود. حادثة اغتيال الصحافي والأكاديمي العراقي محمد بديوي أول من أمس السبت، تضعنا أمام حقيقة ما وصلنا إليه من خراب وهشاشة. لا قانون ولا ثوابت في هذا البلد، والجميع معرّض للموت والقتل بدم بارد مع كلّ لحظة نحيا فيها على هذه الأرض المنتهكة بمفخخات الإرهاب، وغدر الميليشيات والجماعات المسلحة التابعة للأحزاب الفاعلة على الساحة العراقية.
يحصل أن يذهب محمد بديوي إلى مقر عمله القريب من المكتب الخاص برئيس الجمهورية جلال طالباني في حيّ الجادرية في بغداد، حيث إذاعة «العراق الحرّ»، التي يدير مكتبها في العاصمة. تحدث مشادة كلامية مع ضابط من الفوج الخاص بحماية طالباني عند حاجز تفتيش هناك. يتوجه إلى بديوي ومعه عدد من الجنود، باللكمات والضربات. وحالما ردّ عليهم بديوي مدافعاً عن نفسه، أخرج الضابط أحمد إبراهيم مصطفى سلاحه وقتله فوراً برصاصة اخترقت رأسه وتركته جثّة بقيت ست ساعات وسط الشارع.
توالت تداعيات الحادثة وتطوّرت على نحو متسارع. خرج أهالي الحي القريب من مكتب طالباني، ومعهم عدد من الصحافيين وشهود العيان ممن رأوا اغتيال بديوي وتظاهروا عند جثّته، رافضين حملها لغاية تسليم الفوج الرئاسي الضابط الذي نفذ العملية. مرّت الساعات والجثة على حالها والتصعيد يزداد بسبب تعنّت الفوج وإخفاء الضابط. حتى إنّّ تشابكاً بالأيدي وقع بين المتحدّث باسم عمليات بغداد العميد سعن معن، وأحد أفراد حمايات طالباني. استمرّ التحشيد الأمني حول مكتب طالباني مع وصول قوّة من قيادة عمليات بغداد، تلقت أوامرها من رئيس الوزراء نوري المالكي باعتقال القاتل. في هذه الأثناء، وردت أنباء عن اتصالات أجراها نائب رئيس الجمهورية المستقيل عادل عبد المهدي بعقيلة طالباني هيروخان أحمد، طالباً منها إصدار الأوامر بتسليم القاتل وعدم اعتراض القوة الخاصة المكلفة اعتقاله، خشية خروج الوضع عن السيطرة. وتواردت أنباء تفيد بأنّ «اتصالاً أخيراً حدث بين المالكي وهيروخان قبل وصوله إلى مكان الحادثة، ليجري الاتفاق على تسليم الضابط ودخول قوة لاعتقاله، وهو ما جرى فعلاً».
للحادثة أبعاد كثيرة، منها الحالة الهستيرية التي أصابت المارّة وجعلتهم يتوقفون عند جثة بديوي، ويرفعون أصواتهم تعبيراً عن انزعاجهم من التشديدات الأمنية وكثرة حواجز التفتيش في بغداد، التي لا تنجح في وقف المفخخات التي تضرب العاصمة. بعدٌ ثان أججته قضية بديوي هو إثارتها للنعرات القومية والعنصرية، بين من يدعو إلى «سحل الأكراد في شوارع بغداد»، وآخرين يكتبون على صفحات الفايسبوك «إنّنا لن نركع لبغداد والعرب ثانية»، ومن بين هؤلاء صحافيون وناشطون من الجانبين العربي والكردي.
دانت المنظمات الصحافية ونقابات بغداد وكردستان هذه الجريمة البشعة
الدعاية الانتخابية المبكرة واستثمار الحادثة كانا حاضرين أيضاً، بدءاً من توافد مسؤولين إلى مكان الحادث، وصولاً إلى التصريحات النارية لبعض أعضاء مجلس النواب. انتقد صحافيون تصريح المالكي لدى وصوله المكان، حين قال: «أنا ولي الدم، ويجب أن يسلّم القاتل للقضاء وهذه إجراءات تعسفيّة»، مهدّداً بانّ «الدم بالدم». وعلّق الصحافي عدي حاتم، موجهاً رسالته إلى رئيس الوزراء: «دماؤنا ليست للمزايدات الانتخابية، ماذا ستفعل بدماء أكثر من 200 صحافي قتلوا تحت حكمك، وهناك العشرات منهم مسؤولة عن قتلهم قواتك الأمنية أو ميليشيات وحمايات مسؤولين مقربين منك؟».
وأمس الأحد، خرجت تظاهرة احتجاجيّة في مكان الحادثة، ندّدت بالفعل الإجرامي، وأشعل الصحافيون شموعاً. صحف بغداد لم تكن بمنأى عن القضية. احتجبت عشر صحف يوميّة عن الصدور مساء الأحد احتجاجاً على قتل بديوي، منها «الصباح»، و«الصباح الجديد»، و«البيان»، و«الزوراء»، و«البرلمان»، و«العالم»، و«الحقيقة» و«البينة». ودانت المنظمات الصحافية والنقابات الناشطة في بغداد وكردستان، اغتيال بديوي بهذه الطريقة. وطالبت «النقابة الوطنيّة للصحافيين» بإجراء «تحقيق مهني وشفاف وعدم تسويفه كما حدث في حالات سابقة من أجل تسليم الجناة إلى القضاء». ودعت إلى عدم إخراج الحادث عن طبيعته الجنائية، مشيرةً إلى أنّ «ما جرى يدلّ على عدم احترام القوة الأمنية للصحافيّين وعموم المواطنين».
صحيح أنّ جرعة إضافية من الكراهية والعنصرية أفرزتها قضية اغتيال بديوي، لكنّها أبرزت أيضاً الكثير من الأصوات العاقلة التي دعت إلى التهدئة، وخصوصاً مع التهيئة لتظاهرات في كردستان تستنكر ما قاله المالكي، وانجرار الموضوع إلى أبعاد مخجلة في صفحات الفايسبوك. وهنا يعلّق الشاعر زاهر موسى: «الأكراد ليسوا ضابطاً سافلاً يقتل بهمجية، والشيعة ليسوا نوري المالكي ولي الدم والهدم».