يصل فريق العمل إلى ساحة التباريس صباح الأحد في الخامسة صباحاً. اختير هذا اليوم للتمكن من تصوير مشهد اصطحاب فيليب عرقتنجي لأولاده إلى خط التماس من دون أن يتسبب التصوير بزحمة سير، أو تعيق الزحمة تنفيذ المشهد. أخذ الجميع مواقعه في انتظار اكتمال ضوء الصباح، توقفت سيارة على تقاطع الطرق في انتظار الضوء الأخضر، وما هي إلا لحظات حتى اصطدمت بها سيارة أخرى يقودها شاب ثمل. سوف يتأخر تصوير المشهد. غالباً ما كان نهار التصوير في «ميراث» يبدأ بحوادث شبيهة. كان على المخرج وفريقه التماسك لأنّ الضغط كبير، فهو سينتقل من مخرج يدير أولاده الممثلّين إلى أب يضبط خلافاتهم الصغيرة، ثم يركّز ليلعب الدور المطلوب منه كممثّل، وسط متطلبات تقنية لا يكفل معها أحد ضبط أعصابه حتى آخر النهار.
صعوبات التنفيذ فاقتها صعوبة التحضير. لم يكن سهلاً على عرقتنجي إقناع نفسه والعائلة والمموّلين المضي قدماً في تنفيذ فيلم عنه وعن عائلته، وإن كان الهدف إبراز محطات من تاريخ لبنان. رأى مراراً صوره وصور زوجته وأولاده وأهله على الشاشة الكبيرة. خاض نقاشات مع العائلة أولاً قبل أن يواجه المموّلين، فهو سيشارك الناس لحظات حميمة من أرشيف شخصي، وسيتحوّل مع عائلته إلى ممثلين في بعض المشاهد التي تستحضر ماضي العائلة، وإلى شخصيات حقيقية تعيش الحاضر في مشاهد أخرى.
قبل أن يلعب المخرج دور الأب، لجأ إلى اختصاصيي علم نفس يسألهم عن جدوى سرد ماض أليم من الحروب والهجرة ومشاركته مع الأبناء. في أحد المشاهد، يستعرض عرقتنجي أمام أولاده مقتنيات من طفولته عبارة عن كميات من الذخيرة جمعها من أمام منزله قرب خط التماس. حاول أن يراعي الدقة في الأسماء، فلجأ إلى أصدقاء حضروا خلف الكاميرا، تأكدوا من مفردات كالخطّاط والحرّاق والفراشة، لكن كانت هناك مسؤولية عند التفكير في أهل سيشاهدون أباً يستعرض أمام أولاده ألعاب طفولة عبارة عن ذخيرة من كل العيارات.
جلسات النقاش ومراجعة السيناريو التي سبقت التصوير وضعت الفيلم أمام اختبار سرد محطات من تاريخ المنطقة الحديث. تاريخ رسم مصير عائلة بحسب سيناريو الفيلم، وكاتب السيناريو هو أحد أفراد هذه العائلة، فلن يتمكن إذن من مقاربة التاريخ كشاهد متفرّج، ولن يتمكن من التملّص من إبداء رأيه ـ مهما توخّى ذلك ـ بأحداث كالوحدة العربية بين مصر وسوريا، أو الانتداب الفرنسي، الحرب الأهلية، ثورة 1958، عدوان تموز 2006. كان النقاش يطول ويعود إلى الجدل ذاته أثناء التدقيق في المفردات بين حرب وعدوان، ثوّار ومتمردين، حبيب أو غريب... حتى يصل إلى وصف ما يحصل اليوم أيّ لا حلّ.
هناك لحظات معقّدة وحسّاسة يتناولها الفيلم تطرح إلى جانب الأسئلة عن الهوية والانتماء والبقاء والرحيل، أسئلة أخرى عن دور السينما في لبنان وتحديداً سينما الحروب الأهلية. هل نصنع أفلاماً فقط لنتذكّر الحرب ونستعيد مفرداتها أم لمناقشة أسبابها ونتائجها أم لإثبات وجهات نظر قديمة جديدة؟
تبدأ أحداث الفيلم بجملة «رجعت الحرب ولعنتها» التي قصد فيها فيليب حرب تموز، وليس الحرب الأهلية. يجرّد نفسه من أسباب الحرب، مهتماً فقط بأثرها عليه وعلى عائلته. من هنا يبدأ النقاش، وتُطرح الأسئلة في حوار إيجابي عبر السينما وليس عبر المَحاور أو برامج الـ «توك شو» أو تويتر وفيسبوك.
* مساعد مخرج في «ميراث»