الجسد الأسود الأنثوي. المصطلح المركّب وحده لا يترك أثراً محدّداً، ومن شأنه أن يستحضر صوراً متعدّدة لهذا الجسد، متناقضة أحياناً، تخلط ما بين التمثيلات الخاصّة، وتلك البيضاء، التي تعاملت مع كائن آخر بكل المعاني، لناحية اللون أولاً، يُضاف إليه الجندر في حالة النساء. وما إن نضع المصطلح في سياق أميركي فإنه سيثير وخزة تختزن كلّ التنميطات أو «ألماً مكثّفاً»، كما تصف الكاتبة النسوية الأفرو أميركية بل هوكس الصور التي أنتجها الخيال الأميركي عن أبناء الجلد الأسود. «إنها تمزّق جهودنا لبناء أنفسنا وهويتنا». ومن الفجوات التي تخلّفها تمثيلات كهذه على النفس «سيدخل التواطؤ الطائش، والغضب المدمّر للذات، واليأس العاجز». في اقتراحها لمواجهة هذه الجروح وشفائها، يجب «أن يكون السود التقدميون والمناضلون مستعدّين لبذل جهد للتدخل النقدي في صنع الصور عن أنفسنا وتبديلها... الصور التي ننتجها والطريقة النقدية التي نتكلّم ونكتب بها عن هذه الصور. والأهم علينا رفع التحدّي لقول ما لم يقل من قبل». برفقة نضالها على الأرض لنيل الحقوق المدنيّة، وجدت الحركات النسوية السوداء نفسها أمام صراع آخر مع الخيال. خيال يرافق أجساد النساء السوداوات كمرآة كبيرة تلتقي فيها مشارط الأطباء والعدسات البيضاء المدهوشة بالجسد المختلف، ومن ثمّ الإعلانات التجاريّة والرسامون والمصوّرون الذين أنتجت عدساتهم تمثيلات لسدّ القلق الأميركي الأبيض
ندبة العبوديّة
في بحثها عن تمثّلات الجسد العاري الأسود للنساء في أميركا، تلحظ الباحثة ليزا كولينز تأخّر ظهوره في اللوحات والأعمال الفنية. ثمّة معادلة بسيطة لذلك: بينما تعرّضت أجسادهن للاستباحة الجنسية/ الاقتصادية خلال نظام العبوديّة، بقيت الأجساد نفسها قاصرة عن الدخول إلى لوحات العري الجمالية، كونها لا تلائم مقاييس الجمال الأبيض النموذجي. نظرات لم تهبط على الجسد الأنثوي الأفريقي لدى انتقاله إلى القارّة الجديدة بالسفن. بل جاءت ضمن سياق واسع من العلاقة الأوروبيّة تحديداً بالجسد الأسود في المستعمرات التي صنعت التاريخ الجنسي العنصري للولايات المتّحدة وفق الكاتبة الأميركية باربرا أومولايد: «التاريخ الجنسي للولايات المتحدة بدأ في لحظة تاريخية محدّدة، حين التقى الرجال الأوروبيون بالنساء الأفريقيات في قلب الظلام، في أفريقيا الأم. لقد واجها بعضهما كمنتصر ومحتلّ: النساء الأفريقيات الأسيرات اعتُبرن كملكية جنسية للأوروبيين». لم تكد تنجو واحدة من النساء السوداوات خلال العبوديّة في أميركا من الاغتصاب من قِبل أرباب عملهن البيض. هذا ما يكاد يُجمع عليه معظم السير الذاتية التي نجت من تلك الفترة. تعرّضت النساء للترهيب بشكله الأقصى مقابل تهديدهن بأولادهن وبطعامهن اليومي. غير أن هناك ما ظلّ حاضراً منذ الاستعمار الأوروبي لأفريقيا في النظر إلى النساء ذوات البشرة السوداء. نوع من النظرة المتفحّصة، والمتعجّبة من جسد لا يشبه سواه من الأجساد التي اعتادت رؤيتها، نتج عنها نوع من الأسطرة للرغبات الجنسية «المتوحّشة» للمرأة السوداء.
سارة بارتمان في إحدى البطاقات البريدية الساخرة

الجسد الأسود المستجدّ بالنسبة إلى نظرة المستعمر، شرّع استباحته والعبث به. لا يمكن لمن يريد الرجوع إلى محطاته أن يتجاوز حادثة عرض سارتجي بارتمان في القرن التاسع عشر. الشابة الأفريقية استُقدمت إلى أوروبا، وعرضت بين لندن وباريس لخمس سنوات متتالية، مقابل بدل مادي فرضته الحدائق والمسارح على المتفرّجين. لم تكن الحادثة تفصيلاً، بل جسّدت استلاباً مرعباً لسلطة المرأة السوداء على جسدها العاري. جسدها الإكزوتيكي استقطب مجموعة من الممارسات السلطوية البيضاء للمؤسسات الطبية والعلمية والإعلانية والإنثروبولوجية. تنقّلت الشابة الأفريقية برفقة مدرّب للحيوانات. أُخضعت لاختبارات وتجارب طبيّة، بسبب مؤخّرتها الممتلئة. كما طلب الأطباء من الرسامين أن يخطوا لجسدها رسومات متعدّدة كتوثيق لجسد استثنائي، لتنتقل لاحقاً إلى رسومات كاريكاتورية على البطاقات البريديّة. السلطة نفسها طاردتها حتى رحيلها عن 25 عاماً، حيث تم استئصال أعضائها التناسلية وتم الاحتفاظ بها.
رافق هذا الخيال النساء السوداوات في أميركا. في فترة العبوديّة، كانت أجسادهن العارية تُعرض كإجراء روتيني في مزادات العبيد، حيث كان يتم تقييم أسعارهن نزولاً عند بعض السمات الجسدية كالقوة والجمال، والعمر (ما يعني قدرة أكبر على الإنجاب، والمزيد من العبيد).
أما العدسة العلميّة فقد طاردتهن أيضاً، في فضاءات أميركا المدينية على غرار ما فعلته الكاميرات نفسها مع أجساد نساء وشابات القبائل الأفريقيّة. غير أن إعادتهن إلى صورتهن القديمة، تمّت بالتقاط بعض الصور العلمية لشقيقتين هما درانا وداليا منتصف القرن التاسع عشر. اللقطات تُظهر الشقيقتين الأفريقيّتين عاريتين تماماً من الأعلى. تظهر صدورهن، وتنظران مباشرة إلى الكاميرا. غير أن هناك ما يفصل هذين الجسدين العاريين عن اللقطات القبلية لنساء يتجوّلن في محيطهن القبلي عاريات. إنهما في استديو تصوير. هناك من أجلسهما ونزع فستانيهما اللذين يظهران عند أسفل خصريهما في الصور. هكذا فرضت وهيّئت لهما العودة إلى ذلك الإطار الأوّل، لا لسبب إلا لون بشرتيهما.
قالت الناشطة الأميركية أنجيلا ديفيس إنّ «الحركة النسوية السوداء بدأت مع عمل بيتي سار»


في حكايات العبودية التي تناقلتها النسوة الأفريقيات من جيل إلى جيل، ظلّ الجسد العاري مرتبطاً بتجربة العبودية المريعة وبالعريّ الإكراهي. تاريخ لم يغب بشكل من الأشكال عن الفنانات الأفريقيات أو الروائيات اللواتي أتين لاحقاً للبحث في تاريخ جدّاتهن. بالنسبة إليهن، التصالح مع تلك الصدمة الأولى يخلّصهن من علاقة شائكة ومتوارثة مع أجسادهن والنظرة إليها. الفنانة فايث رينغولد إحداهن. لوحاتها تجرّأت على النظر والتطلّع إلى التاريخ الأميركي الدموي والتحديق به بخفّة كاملة، بألوان صاخبة وشخصيات أقرب إلى الكاريكاتوريّة تناقض الموضوع الأليم تماماً. نساء يقتلن ويهربن في الأدغال، وأخريات يحلّقن فوق أبنية نيويورك. ما دفعها إلى إنجاز قصّتها التشكيلية على الأقمشة. «اغتصاب العبيد» بداية السبعينيات هي مجموعة تساؤلات حول أولى النساء اللواتي وطأن أميركا. «إنها محاولة لفهم جذور النساء السوداوات اللواتي جئن إلى هنا. ماذا كنّ يفعلن هنا؟ كيف كنا نبدو قبل المجيء إلى هنا». من بعض الوقائع والتفاصيل من حياة النساء خلال فترة العبوديّة، تعيد رينغولد نساء لوحاتها السوداء إلى الفضاء الأوّل، فضاء طبيعي. ربمّا هو أفريقيا الأم. تجد وافراً من الخفّة في تبديد صدمة ذلك التاريخ العنيف، من دون أن تقلّل من ثقله. إنهن ينظرن مباشرة إلى عيني المتفرّج، لكنها نظرة استباقيّة، نظرة مرعوبة من مطاردة أحد الذين لا يظهرون في اللوحات. بهذه النظرات والمواقع الفاعلة لنسائها بتفاعلهن مع المحيط والشجر، صنعت رينغولد سرديّتها البصريّة عن النساء السوداوات خلال العبوديّة، واغتصابهن ومطاردتهن.

من العمل المنزلي إلى العمل المسلّح
ماما جميما أو العمّة جميما هو اسم أُطلق على امرأة سوداء أخرى. المرأة الممتلئة الجسد، بضحكتها العريضة دائماً، والقماشة الحمراء التي تلفّ رأسها. ابتسامة ضرورية لتظهير الرضى عن موقعها كعبدة في منازل البيض. إنها إحدى أكثر الصور النمطية عن المرأة السوداء العاملة، بحصرها ضمن موقع تمييزي اقتصادياً عبر اختزال مهماها وقدراتها في العمل المنزلي فقط. رافقت هذه العاملات الخيال الأميركي منذ العبودية، رغم دحض بعض المؤرّخين صحّة أن يكون هناك جسد أفريقي بهذا الحجم، في وقت كان يُمنع فيه الأكل عن العبيد. الانتشار الأكبر لماما جميما ظهر في بداية القرن الماضي في الإعلانات التجارية لبعض المأكولات، ثم صارت وجهاً مألوفاً في أدوات المطابخ، بالتزامن مع انتقالها إلى الشاشة حيث ترسّخ دورها كمدافعة عن أسيادها (الخوف من التحرّر)، كما في فيلم «ذهب مع الريح» (1939) حيث تتصدّى مامي إلى الجنود من ذوي البشرة السوداء للدفاع عن أصحاب البيت البيض. تتنازل جميما أيضاً عن جسدها تماماً إلى العائلات البيضاء ومتطلّباتها، على حساب عائلتها. غير أن المرأة السمينة، تناقض كلياً شكل العاملات المنزليات السوداوات في بيوت البيض في الجنوب الأميركي. بعكس عاملات الحقول والزراعة من العبيد، فإن من كان يسمح لهن بالدخول إلى المنازل كنّ بلون فاتح نسبياً، كما كنّ أكثر شباباً من العمّة جميما الخمسينية. من هنا تجمع بعض السرديات على أن هذه الشخصيات السوداء المتخيّلة جاءت لتسدّ القلق الأبيض في أميركا. وفي حالة ماما جميما، تم ذلك عبر بتر أنوثتها تماماً، ومنحها ملامح كاريكاتوريّة من شأنها أن تصرفهن بعيداً عن المنافسة مع ربّات المنازل البيضاوات.

«تحرير العمّة جميما» للفنانة بيتي سار (مواد مختلفة ــ1972 )

بعد نهضة هارلم الأدبية والفنية، شكّلت حركة الحقوق المدنية خلال الستينيات لحظة سياسية فارقة بالنسبة إلى الفنانين السود. من كان منهم بعيداً عن السياسة والانخراط العنفي، وجد نفسه من الداعين إليه بعد اغتيال القادة السود وتفجير الكنائس والعنف الذي تلقّاه السود. إعلان النضال السياسي تمّ في كثير من الأحيان من خلال شخصية ماما جميما، كما في عمل للفنان الأميركي جو أوفرستريت بعنوان «جميما الجديدة» بداية الستينيات. في لوحته، أبقى الفنان على ابتسامة جميما الواسعة، لكنه منحها بندقية. لم تعد المرأة المطيعة تكتفي بحمل المكنسة. انقلبت معادلة الخيال الأبيض المطمئن. كأن جميما أفاقت مع موجة الاحتجاجات السوداء التي قدّمت قيادات نسائية مثل أنجيلا ديفيس. الفنانة بيتي سار حرّرت المرأة الضاحكة أيضاً في عملها «تحرير العمّة جميما» (1972). العمل عبارة عن تمثال لجميما، يحتفظ بالشكل المتعارف عليه، وهي تحمل المكنسة في يدها وفي اليد الأخرى بندقيّة، ما يستحضر صورة أحد قادة الفهود السود هيوي نيوتن وهو يحمل الرمح بيد وباليد الأخرى بندقيّة. منحت بيتي سار خادمتها خطاباً سياسياً جذريّاً، كما في عملها «كوكتيل» الذي يجسّد قنينة ملولوتوف مع صورة للعمة ملصقة على زجاجتها الخارجية، أما ربطة رأسها فهي القماشة التي تُستخدم لإشعال الزجاجة المتفجّرة. لدى عرض هذه الأعمال ضمن معرض جماعي سنة 2007 قالت الناشطة الأميركية أنجيلا ديفيس إنّ «الحركة النسوية السوداء بدأت مع عمل سار»، في إشارة إلى الدور التحوّلي الرمزي الذي لعبه العمل في تجسيد النساء الأفريقيات في أميركا.

الرقص في «اللوفر»
نعود إلى فايث رينغولد مجدّداً. هذه المرّة من باب المتاحف الأوروبيّة بوصفها مؤسسة الخطاب الأبيض الواحد على حساب عزلها فنون الشعوب الأخرى، والأفريقية تحديداً، التي غيّبت عن التعليم الرسمي في المعاهد والمؤسسات الفنية لسنوات طويلة. في سلسلتها القماشية «المجموعة الفرنسية» (1991 ـ 1994)، تجمع الفنانة الأميركية الرسم والسرد والتطريز من أجل رسم قصّة عن فنانة أفريقية أميركية. تتبع القصة امرأة خلال زيارتها فرنسا بداية القرن العشرين مع صديقتيها وبناتها الثلاث. واحدة من أبرز اللوحات من تلك السلسلة هي أجساد نساء سوداوات يرقصن في متحف اللوفر أمام لوحة الموناليزا. وضعت رينغولد بطلاتها في فضاء للقوّة البيضاء بكل المقاييس، وأحاطت أجسام نسائها السوادات بلوحات رفاييل وليوناردو دافينشي، مشرّعة عملها على أسئلة كثيرة حول التمثيلات السوداء وتجارب الفنانين السود والبيض.
من سلسلة «اغتصاب العبيد» للفنانة فايث رينغولد (زيت وتطريز على كانفاس 227×130 سنتم ــ 1985)

وباستخدامها القماش والتطريز كممارسة نسائية متوارثة، أدخلت رينغولد هذه التقنية المحليّة والشعبية إلى الفن المتحفي، مقابل تقليد الرسم الزيتي الغربي. بعد ثلاثة عقود على أعمال رينغولد، دخلت بيونسيه متحف اللوفر مجدّداً في فيديو أغنيتها Apes**t مع زوجها جي زي. الأكاديمية في الدراسات الأفريقية الأميركية أليكساندرا أم توماس تلتقط اللحظة المتشابهة لهذين الاجتياحين. يفتتح فيديو بيونسيه على لقطة للثنائي أمام لوحة الموناليزا، أشهر الأعمال المعروضة في اللوفر. مع الزوجين، تتوالى أجساد النساء الراقصة ببشرات من كلّ التدرجات اللونيّة السوداء. أجسادهن صنعت إطارات أو عدسة جديدة للوحات، تأتي كتعبير سياسي مضاد ونقد سنوات طويلة من العلاقة الفنية السوداء والبيضاء، خصوصاً في رقصهن أمام لوحة «تتويج نابليون» (1807) لجاك لوي دافيد.