لندن | لا مناص من التاريخ في شغل وليد رعد (1967). في أدواته الموزّعة بين التصوير والفيديو والكولاج والتجهيز، يتخذ الفنان اللبناني من التاريخ وسيلة لإثارة أسئلة وخلخلة مفاهيم راسخة، وطرح بدائل بصرية للتجربة الإنسانية والعربية المعاشة. شاهدنا ذلك في مشروعه المتفرّد «أطلس غروب»، الذي تعقّب فيه وحش الحرب الأهلية اللبنانية (1975ـ1990)، وطرح مساحة للتشكيك في الصور المكرّسة التي أنتجتها.
معرضه اللندني الجديد «مقدمة للطبعة الإنكليزية الأُولى» في غاليري «أنتوني رينولدز»، هو تعقّب لرحلة 294 قطعة فنية إسلامية، سيُعيرها متحف «اللوفر» الباريسي إلى متحف «اللوفر أبوظبي» (تأسس عام 2007) بين أعوام 2016 و2046. «اللوفر» الذي تأسس عام 1792 إبّان صعود فرنسا كقوة استعمارية كلاسيكية، افتتح عام 2003 قسماً خاصاً بالفن الإسلامي، يضم حوالى 18 ألف قطعة إسلامية. وفي عام 2012، دعا القائمون على قسم الفن الإسلامي في متحف «اللوفر» الباريسي الفنان المقيم بين بيروت ونيويورك، إلى تعقّب مصائر هذه القطع الفنية التي ستكون عُرضة للتلف في طقس الصحراء العربية القاسي، وعُرضة لـ«الاهتزازات النفسية» بعد انتزاعها من السياق الثقافي والسياسي في متحف «اللوفر»، وعرضها في سياق مختلف في الإمارات. هذه القصّة «الرسمية» للمعرض، يتخذها وليد رعد «حجة» كي يوظّف أدواته الفنيّة في طرح حياة وتاريخ بديلين لهذه القطع الإسلامية؛ وكي يثير أسئلة جمالية حول الكيفية التي تتعامل بها المتاحف والغاليريات في العالم العربي مع «الفن الإسلامي».
في القسم الأوّل من المعرض، نشاهد صوراً كبيرة لفترينات من متحف «اللوفر» تضمّ القطع الإسلامية في القرن العشرين. التوليفة البصرية لهذه الفترينات المتراكمة فوق بعضها والمتشعبة والمتداخلة، تدعو المشاهد إلى إعادة قراءة مصطلح «الفن الإسلامي» نفسه، والانتباه إلى تفاصيله المُغيّبة في إطار الصورة العامة. يكسر وليد سطوة هذا المصطلح الذي ظهر في القرن التاسع عشر، وجرت إعادة تكريسه بعد أحداث 11/9 من قِبل «الغرب»، لأغراض ثقافية وسياسية وإيديولوجية. يُسلّط أدواته الفنية على الخطاب الذي ينتج المُسلمات والصور المكرّسة عن «الفن الإسلامي» لكن من دون أن يورّط عمله في وحول هذا الخطاب الثقافي والسياسي. إنه يصغي للتفاصيل، وهي بدورها كفيلة بتفكيك الحقائق الراسخة. هذا ما يفعله في هذا القسم، إذ نشاهد صوراً (طباعة على صفائح معدنية)، بأحجام متوسطة وصغيرة للقطع الإسلامية: سجادة، وتماثيل، وخوذة فارس، وخناجر موشّاة، وصحون، ومزهريات، وديك مرصّع بالذهب. في الصور الصغيرة، سنقرأ إلى جانب القطع الفنيّة تعليقات باللغة الفرنسية، كتبها خزنة متحف «اللوفر». لكن هذه التعليقات والشروحات لم تُكتب للقطع الفنية التي يتعقّب وليد رحلتها. من خلال إلصاق تعليقات فرنسية هنا لا تمتّ للقطعة بصلة، يطرح وليد رعد تعليقات بديلة لهذه القطع الإسلامية. إنه يتعقّب رحلتها كما يتعقّب الجسد الحي. ما دامت هذه القطع ستسافر في رحلة إلى بلاد أُخرى، فإنها تحتاج لتعليقات بلغة تلك البلاد. كذلك، نجد طرحاً جمالياً للظلال والخطوط التي تُحيط بصور القطع الفنية. يوسّع رعد أو يضيّق أو يُغمّق الظلال حول صورة القطعة الفنية. ما دام لون السماء والظلال يختلف باختلاف البلاد، فالظل حول القطعة الفنيّة الإسلامية لن يكون ذاته في «اللوفر أبوظبي» أو أي متحف آخر، كما في «اللوفر» الفرنسي.
في الصور ذات الحجم المتوسط، يكشف رعد «لعبة» التاريخ الساخرة. نقرأ بصعوبة الشرح تحت صورة خنجر ينتهي مقبضه برأس فرس. يُراكم التفاصيل والشروحات فوق بعضها تحت الصور، ويتركنا في شكٍ من كون الخنجر من مصر أو الهند؟ من القرن السابع عشر أو التاسع عشر؟ في النهاية، هذه إحدى ألاعيب التاريخ الذي يستمتع بمراكمة أسماء المدن والبلاد والتواريخ والأحداث وأسماء القادة والشخصيات، ويمحو بعضها ببعض.
القسم الثاني من المعرض، هو تجهيز فيديو معروض على حائطين متقابلين. في البداية، يبثُّ «البروجيكتور» شاشة لألوان طويلة تشبه قوس قزح الذي تأخذ ألوانه بالانزياح والامتزاج. ضمن تحولات وتقلبات هذه الألوان، تظهر القطع الإسلامية كأنها ومضات من جغرافيا البلاد التي جمعتها يوماً الحضارة الإسلامية: من الهند وإسبانيا ومصر والأناضول وشرق الصين. لا تعود هذه القطع جماداً في الفيديو. إنها تتنفس في تحولاتها، بعد أن تتبدل نظرة من يشاهدها، وهي تنطلق في رحلة إلى الجغرافيا التي احتضنتها يوماً. وهنا تبدأ رحلتها الأصعب التي تقتضي إعادة خلق جديد للقطعة الفنية، بتعليقات وظلال جديدة. وزحزحة حوالى 200 عام من السياق السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي ثُبتت فيه هذه القطع في متحف «اللوفر». وسيزيد من صعوبة رحلتها، عرضها في متحف «اللوفر أبوظبي»، في سياق مختلف كلياً. يكفي مثلاً أن نعرف أنّ «اللوفر أبوظبي» بناه عمالٌ آسيويون ضمن مشروع «جزيرة السعديات» في ظروف غير إنسانية، أدانتها منظمة «مراقبة حقوق الإنسان» عام 2009.
هذه التحوّلات الجمالية للقطع في تجهيز الفيديو، قادت وليد إلى طرح مساحة تشكيك في كيفية اهتمام المتاحف العربية (ومنها متحفا «الفن الإسلامي» في الدوحة والقاهرة) بالتراث الفني العربي والإسلامي. يرى أنّ هذه المتاحف تتعامل مع هذا التراث على «أنه تُراث مدمّر في زمن الحروب والاحتلالات. وتقوم هذه المتاحف بإعادة بنائه من الصفر، رغم أنه موجود. سبب هذا أنّ الحرب تطال «الجانب النفسي» للقطعة الفنية، وتجعلها تنسحب إلى الظل، وتبدو موجودة لكنها غير متاحة للمشاهد». هنا يبني وليد على نظرية الفنان والمنظّر اللبناني جلال توفيق في كتابه الشهير The Withdrawal of Tradition Past a Surpassing Disastrous.
لكن ماذا عن «الرحلة الأولى» لهذه القطع الفنية الإسلامية التي وصلت عبر السرقة والنهب والاحتلال إلى أيدي سماسرة باعوها إلى المتاحف الغربية في باريس ولندن وبرلين ونيويورك؟ هذا ما سيكون عنوان أحد معارضه المقبلة.



«مقدمة للطبعة الإنكليزية الأولى»: حتى 5 نيسان (أبريل) ـ غاليري «أنتوني رينولدز» (لندن)
www.anthonyreynolds.com