«المشاكسة الجميلة» ـــ جاك ريفيتالجائزة الكبرى في مهرجان كان ١٩٩١


بساعاته الأربع وباستخدام الوقت الحقيقي للرسم، بكاميرا ترقص بين الأقلام والفرشاة وجسد المشاكسة العاري؛ يكشف المخرج الفرنسي جاك ريفيت في فيلمه La Belle Noiseuse ولادة عمل جديد لرسام مشهور. ولادة مضنية تأتي بشقّ النفس. يقدّم ريفيت العلاقة السامّة بين الملهمة والرسام، التعذيب النفسي والتدمير الذاتي، ويلقي نظرة دقيقة وقريبة على العملية الفنية والرسم. توقّف الفنان المشهور إدوارد (ميشال بيكولي) عن العمل منذ فترة طويلة. هو يعيش الآن في الريف مع زوجته ليز (جين بيركين). عندما يزوره صديقه نيكولاس (ديفيد بورستين)؛ يُفتن إدوارد بجمال صديقته ماريان (إيمانويل بيار)، ذلك الجمال الأخّاذ الذي يلهمه لإكمال رسم لوحة، لموديل عارية، تخلّى عنها منذ سنوات. مع اقتراح إدوارد وموافقة ملهمته الجديدة ماريان، يبدأ العمل على المشروع الصعب. يدور «المشاكسة الجميلة» حول اللوحة التي يحاول إدوارد إتمامها، لكنّ الفيلم يأخذنا أبعد من ذلك. يحاول الكشف عن التحفة الفنية داخل الفنان نفسه أو ملهمته، وكيف أن المشروع كلّه يؤثر عليه وعليها وعلى المقربين منهما بشكل واضح. الشخصيات حقيقية إلى أبعد حدود وخاصة ماريان. مع كل ضربة من ريشته، يكشف شخصيتها الداخلية على القماش، وكلّما انكشف جزء من اللوحة كلّما انكشفت أرواح الشخوص أمام ذواتهم وأمام من حولهم كأنهم لم يروها من قبل. إن مشاهدة لمسات الألوان على القماش، تعطينا نظرة واضحة عن الفن الذي يتم خلقه. مشاهد الرسم حقيقية مع الوقت الحقيقي كما لو أنك تشهد اكتشاف الفن. التغيرات التي تحدث داخل الشخصيات مع تطور المشروع، تنفخ روحاً في الفيلم، وتعطي الحياة للجسد العاري والقماش والحبر. «المشاكسة الجميلة» واحد من أهم الأفلام الفنية العظيمة التي تقدّر فناً معيّناً وتقدّر العملية الفنية التي تمرّ من بداية الإلهام مروراً بالروح الداخلية للفنان لتنتهي بتحفة فنية، مع إلقاء النظرة على نضالات الفنان والتأثيرات النفسية التي يمرّ بها والإلهام الذي يأتي بدون تخطيط. ريفيت يقدم رحلة الشقاء، في واحد من أهم الأعمال السينمائية التي عالجت بزوغ العملية الفنية، من الذات إلى الموضوع، من الذهن إلى المادة.

«قوة قاهرة» – روبن أوستلوند
جائزة لجنة التحكيم - مسابقة «نظرة ما» – مهرجان كان ٢٠١٤



إجازة سرعان ما تتحول إلى كوميديا سوداء. دراما نفسية عن الأنانية، حب البقاء، الهروب والمساعدة. نقد ساخر لصفات «الرجولة». Force Majeure للمخرج السويدي روبن أوستلوند، قاسٍ يلقي الضوء على ضعف الإنسان، الرغبة في البقاء على قيد الحياة، وما يرافقها من صراع داخلي.
في جبال الألب الفرنسية، يمضي الزوج توماس وعائلته عطلتهم. المصائب تبدأ بالهبوط على العائلة، وتحديداً عند تناولهم الغداء في الشرفة المطلة على المنحدرات الثلجية. انهيار ثلجي مفاجئ يهدّد سلامة العائلة ويزرع الخوف في نفوسهم. يمسك الأب هاتفه ويركض هرباً من الموت، في حين تلتفّ الأم إيبا حول أطفالها وتصرخ طالبة العون. لم تتكبّد العائلة أيّ أضرار جسدية لكنّ أذى معنوياً أصاب الجميع. صدمة داخلية حيال تصرفات الأب. ردة فعل غرائزية للزوجين، والكارثة هنا ليست بسبب حادثة طبيعية ثلجية، بل جرّاء انهيار المشاعر الإنسانية والأمور التي لم تبقَ على حالها.
يقدّم أوستلوند فيلماً اجتماعياً فكاهياً وساخراً عن تفاعل الأب والأم في المواقف والأحداث المأساوية. حوارات صادمة بينهما مفعمة بالأحاسيس التي تطالنا كمشاهدين. فهنا الرجل المتهم بالجبن والضعف. والمرأة المتسائلة دوماً عن دور الأب من جهة والزوج من جهة أخرى. حوارات تكشف الرجل عندما يسلك طريقاً خاطئاً، وانفعال المرأة بعد هذا التصرف. يضعنا الشريط أمام تصرفات وأداء كل منهما على حد سواء. يطرح المشاكل النفسية التي تصيب السلوك الإنساني في أشدّ الظروف وأصعبها. فهل نحن مثل الحيوانات نحارب من أجل غريزة البقاء؛ ضحايا غرائزنا كما يقول توماس؟ أم أننا نتمتع بعقل واعٍ وندرك الأمور بطريقة مختلفة عند حدوث الأزمات والمواقف المأساوية التي تهدّد حياتنا؟
الفيلم متقشّف مادياً لكنه كثيف فكرياً وإنسانياً. هنا قرارات نابعة من التفكير اللحظي، تفتت معايير الأسرة والمسؤولية والترابط في مقابل الأنا/ الفرد.

«بلا حب»
جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان ٢٠١٧ – أندري زفياغينتسف



يعرف الروسي أندري زفياغينتسف كيف يوصل كلمته، يفهم تماماً أن الصور تساوي ألف كلمة والرواية البصرية تستحق التأمل الكثير. الصمت الصاخب يهيمن، صمت أعلى من أيّ صرخة. ونحن لا نرى الصمت فقط، بل نستجوبه أيضاً. لذلك سأسمح لنفسي أن أظلّ صامتاً عن قصة الفيلم، وأقول القليل عنها، هي قصة اختفاء صبي يعاني عواقب انفصال أبوين على وشك الطلاق.
يجتاحنا فيلم Loveless بتصويره السينمائي، بصمته وصورته الرصينة الفعالة. يجعلنا نريد البحث عن المزيد. يأخذنا إلى مرآة تعكس مخاوفنا وخسائرنا. خوف على حياة صبي جُلب إلى عالم مليء بالصعوبات والألم، يسكنه بشر غير سعداء. انفصال. افتقار إلى المودة والإنسانية. برد وثلوج وهدم حوار وإعادة بناء آخر. زفياغينتسف يتّخذ نهجاً سردياً من التأمّل، يبدأ بحبال البيانو وأغصان الأشجار المغطاة بالثلج في روسيا الجليدية. إن ذروة الملاحظات والتفاصيل التي تصاحب مشاهد الفيلم، تتوّج بعدم الارتياح وتثبت الشعور بالإلحاح الذي يتنبأ بأسوأ ما يمكن أن يحدث، قبل أن نعرف بالضبط ما هو أو من أين يأتي. عندما ندرك ويدرك الوالدان أن الطفل لم يعد موجوداً، يكون الأوان قد فات. اختفى الصبي ببساطة. ولكن ليس من الصعب تخيّل الأسباب، نتيجة ما قدّمه لنا الفيلم. يقدم لنا زفياغينتسف الفساد؛ ليس العاطفي فقط، بل أيضاً السياسي والأمني. حقيقة مأساة الانفصال والاختفاء تنبع من وضوحها الحزين.
لا تعاطف مع الشخصيات، بل شفقة فاترة، باستثناء الصبي الصغير. الإحساس بالعجز في «بلا حب» يأتي من اليأس والإحساس القوي بأن البحث عن الطفل هباء. وفي الوقت نفسه يبدو عجز ويأس الأم غير نابع من الاهتمام بالعثور على ابنها ولكن لأسباب نرجسية بحتة تنطوي على «كفاءتها» كأم.
في «بلا حب»، الصورة تخبرنا بكل شيء، بالكآبة الصامتة لصبي لا يريده أحد، يختبئ خلف باب الحمام، ولعظمة ألم الروح، لا يخرج الصوت من حلقه. الفيلم معقد، متعدد الطبقات، تأملي ويمشي ببطء كطفل يمشي على الجليد، خائفاً من الانزلاق. دراسة متعمقة في اغتراب الإنسان عن أحاسيسه. عن هذه الأحاسيس التي نحاسب أنفسنا عليها إن كنا لا نشعر بها. ما المشكلة في عدم الشعور بالحب حتى لزوج أو لابن؟ في النهاية، زفياغينتسف يخبرنا بأن الإنسان هو كائن مأساوي لا يقبل «المعرفة التجريبية».

«المربع» ــ روبن أوستلوند
السعفة الذهبية، مهرجان كان ٢٠١٧



يعرف السويدي روبن أوستلوند كيف يضحكنا بهجائه الساخر الذي يُظهر سخافة عصرنا. تولّى The Square زمام الدعابة السخيفة والملتوية في قصة عن الصوابية السياسية. دوامة من القرارات السيئة والمثيرة للشفقة يقع فيها كريستان (كلاييس بانغ) كبير القيّمين على متحف سويدي شهير للفن المعاصر، عندما يقرّر أن يشرع في مهمة غير تقليدية لاسترداد هاتفه المحمول الذي فقده بغباء إثر وقوعه ضحية لعملية احتيال معقدة. خبير الفن البائس سيفعل عكس ما يؤمن به وعكس ما يمثله أحدث مشاريعه الفنية في المتحف. يقع كريستان بسبب مشروعه في المتحف وحملته الإعلانية وسرقة هاتفه في أزمة وجودية. يفقد توازن الحياة الأخلاقية التي بناها بعناية طوال حياته المهنية والتي تنهار الآن وتجبره على مواجهة نفسه ومبادئه.
هجاء ساخر يكشف زيف عصرنا، مأخوذ من أحداث حقيقة معاصرة في المجال الفني. تكمن عبقرية الفيلم بأنه لا يأخذ نفسه على محمل الجد، رغم جدية الشكوى الاجتماعية التي تفجر النفاق الأخلاقي المفترض. أوستلوند صريح في نقد نظام القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. يضرب بالنكات السخيفة. يعالج بحنكة المواقف التي لا يبدو فيها أن هناك شيئاً يحدث بينما تحدث أشياء عديدة مهمة.
الهجاء، نوع دقيق جداً في السينما وعلى المخرج تحقيق التوازن بعناية فائقة. الهجاء يجعلنا نضحك أولاً ثم نفكر. ولمجرّد أنّ هناك شيئاً ساخراً، لا يعني أنه ساخر بالفعل؛ فقد يكون هجومياً ومضللاً. وأوستلوند يعرف ذلك تماماً، ويعرف كيف يحقق التوازن. ففي فيلمه الذي يحمل نفس اسم المشروع الفني «المربع»؛ هناك هذه المساحة التي يكون فيها الجميع متساوين يخضعون لقوانين متساوية (أطروحة يمكن تحديدها في عقلية ليبرالية حديثة ولكن يصعب تنفيذها). من خلال السويد الحديثة، يسلط المخرج الضوء على الطبقات الاجتماعية وطرق التفكير في مجتمع معاصر. ولأن الفيلم يركز على متحف للفن؛ فإنّ تفسير الفن والطبقة التي ترعى الثقافة لا يتم استبعاده، كما هي الحال في الجملة الافتتاحية في «المربع» حيث يطرح السؤال: «إذا وضعت شيئاً في متحف، فهل سيصبح عملاً فنياً؟».
بسخرية يستهدف أوستلوند المجتمع السويدي. ليس الأمر نقداً للفن المعاصر فقط، بل إنه دراسة حالة اليمين في العالم. الأزمة التي حولت الليبرالية من دورها المزعوم كمدافع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير إلى مراقبة خانقة تحت راية الصوابية السياسية.

لمتابعة العروض: https://arte-magazine.arte.tv/article/2993