السينمائي والمسرحي والإذاعي والمنتج والممثل الأميركي أورسون ويلز (1915 ــــ 1985. نجح في أول فيلم وظهور له في «المواطن كين» (١٩٤١) «الذي يُعتبر أفضل فيلم في التاريخ» (فشل تجارياً بسبب حملة التشويه العدوانية التي شنتها عليه وسائل الإعلام). لكنّه واجه صعوبة بعده. رغم استمراره في تقديم الأفلام التي تُعتبر اليوم الأهمّ في تاريخ الفن السابع، إلّا أنّ شركات الإنتاج لم ترغب في العمل معه. أراد السيد ويلز أن يُمنح الكثير من الحرية، ويضع أفكاره بشكل متداخل للغاية، أن تومض قصصه على الشاشة بشكل مختلف وثوري. لذلك، يُعتبر فيلمه الثالث «الغريب» (1946) أولى تجاربه في نوع الـ Noir. كان يفترض أن يثبت ويلز أنه يستطيع إنهاء فيلم في وقت محدّد وأن لا يتخطى الميزانية (كثيرون كانوا مقتنعين بأن مشكلة ويلز مع السينما التجارية هي ازدراؤه لأموال الآخرين). فعل كلا الأمرين: أنهى الشريط في الوقت المحدد ملتزماً بالميزانية، لكنّه لم يكن سعيداً للغاية به (غالباً ما يكون صنّاع الفيلم أقوى منتقديه). لذلك، علينا العودة إلى الوراء ومشاهدة الفيلم بحذر ومعرفة بخلفيته. حتى لو كان ويلز على حق في تلك الاختصارات غير المعتادة المستخدمة في هذا الفيلم والتي لم يعودنا عليها طوال مسيرته السينمائية؛ إلّا أن الشريط لا يزال يحمل الكثير من الصفات التي تجعله فيلماً لا يمكن لأحد غير ويلز أن يقدّمه. فالعبقري وحده يعرف تماماً كيف يلتفّ حول العوائق والحدود. يعتبر ويلز أن «الغريب» أسوأ أعماله، ذلك أنها كانت المرة الأولى (والأخيرة) التي يردّ فيها على المشورة وطلبات استديو الإنتاج. لكن يبقى ويلز جريئاً. تعامل مع موضوع الحرب العالمية الثانية بشكل أضخم وأعمق من كل ما قُدّم خلال تلك الفترة عنها. حتى بصرياً، جاء الفيلم أنيقاً دقيقاً ومغروراً. لم يفقد ويلز مهاراته البصرية تحت سطوة الاستديو. (لذلك ليس مستغرباً أن هذا الفيلم هو الوحيد لويلز الذي يمكن مشاهدته على نتفليكس، بالإضافة إلى فيلمه الأخير «الجانب الآخر من الريح» الذي أكملت نتفليكس إنتاجه بعد نصف قرن من العقبات و٣٣ عاماً من موت المخرج). في الواقع، كان الفيلم نوعاً من التحدي لويلز لإثبات أنه قادر على إنجاز شيء «طبيعي» من دون طلبات مستحيلة ورسائل ضمنية، وبسرد يسهل فهمه بدون جهد من أي متفرّج. نجح في ذلك من دون التخلّي عن جودته وعبقريته السينمائية، مقدّماً شبكة سحرية من الضوء والظلّ والوقت، بمجموعة مشاهد فجّرها على شكل انتقادات شديدة ضدّ النازية. فرانز كيندلر (أورسن ويلز) أحد أشهر النازيين الذين هربوا من الأسر بعد الحرب. على عكس معظم معاصريه؛ كان كيندلر يحب أن يبقى مجهولاً في تنفيذ جرائمه الشنيعة. استطاع السيد ويلسون (إدوارد روبنسون) من لجنة جرائم الحرب إقناع زملائه بالإفراج عن أقرب المقربين من كيندلر السجين كوندراد مينيك (كوستناتين شاين) الذي يتوقّع ويلسون أن يقودهم إلى كيندلر. من هنا، تبدأ لعبة القط والفأر أولاً مع مينيك ثم مع كيندلر (أصبح يُعرف بتشارلز رانكين، أستاذ في كلية البنين المحلية في بلدة صغيرة يخطّط للزواج من ماري ابنة قاضي المحكمة العليا) اللذين يعرفان بأن ويسلون وراءهما.يبدأ الفيلم بسلسلة من المشاهد، التي تعرض بدقة كيف يجب استخدام الموارد السينمائية لتعريف المشاهد وجعله يشعر بالتوتر الناتج عن مطاردة شخص خطير ومخاطر اكتشافه. عند التعمق أكثر في السرد، سنرى كيف يتم الكشف عن كيندلر من خلال مشاهد منجزة بعناية وبالكثير من التفاصيل الصغيرة وأداء رائع للأبطال الثلاثة. تنكشف اللعبة ويبدأ خيط الصراع من خلال مشاهد خالدة مثل مشهد العشاء حين يطرح ويلز نفسه أفكاره عن الشعب الألماني. كل شيء في الفيلم ذو إيقاع رصين ومعقد ومتعرج، يبذل كل شخص قصارى جهده لتحقيق مهمته إلى النهاية الصاخبة والموجزة. يتم تقديم الوقت في الفيلم باعتباره دافعاً وشخصية رئيسية. الثواني والدقائق والساعات والأيام والأشهر والسنوات كلّها تقدّم بدقة، خاصة الساعة التي تخرج عن روتينها المعتاد، والشخصيات التي تدور وتدور ولا تعرف الطريق الذي تسلكه. الوقت فكرة مركزية في الفيلم وفي أفلام «النوار»، لأنّ مستقبل الشخصيات محكوم عليه بالفشل. فقدت الشخصيات الأمل في مستقبلها عندما أصبحت مذنبةً في ماضيها. المستقبل يميزه هروب من الماضي، هروب لا نهاية له لأن الذنب لن ينفذ. عظيم أورسون ويلز، لا يمكن لأحد إنكار ذلك. حتى تحت ضغط شركة الإنتاج، استطاع تقديم فيلم «تجاري». بعنوانه الغامض، الفيلم مثال كبير على القوة المرئية والكثافة السردية التي أظهرتها عبقرية سينما ويلز التي تميزت بالسحر الباروكي الجمالي. قلة استطاعت أن تقدّم ما قدّمه ويلز، من نص وإخراج وتمثيل وصور وثائقية من معسكرات الاعتقال النازية (أول من استخدمها في فيلم روائي تجاري). لا أحد يستطيع أن يمنع ويلز من تقديم أفلام جريئة.

The Stranger على نتفليكس