إذا كان دانيال دي لويس (1957) سيجسد دور جزّار على الشاشة («عصابات نيويورك» 2002 – مارتن سكوسيزي)، فإنه يتعلم أولاً مهنة الجزار باحترافية. وبصفته آخر رجال قبيلة الموهيكان من سكان أميركا الأصليين («الموهيكان الأخير» 1992 – مايكل مان)، فقد أتقن العيش مثلهم واصطاد الحيوانات من أجل الأكل، وتعلّم كيفية بناء الزوارق والتجذيف. وللعب دور الفنان والكاتب الإيرلندي كريستي براون («قدمي اليسرى» 1989 – جيم شريدان)، رفض مغادرة كرسيّه المتحرك طوال فترة تصوير الفيلم. وأثناء التحضير لدوره كرجل نبيل آتٍ من عام 1870 («عصر البراءة» 1993 ــــ مارتن سكوسيزي)، سجّل وصوله إلى «فندق بلازا» في نيويورك تحت اسم الشخصية التي يجسّدها، وسار في المدينة مرتدياً ملابس من القرن التاسع عشر، بما في ذلك القبعة والعصا. ولفهم وتقديم شخصية توماس («كائن لا تحتمل خفته» 1988 عن رواية التشيكي ميلان كونديرا الشهيرة ــــ فيليب كوفمان) تعلم اللغة التشيكية، ورفض ترك توماس لمدة ثمانية أشهر تقريباً. لشخصية أبراهام لينكون («لينكون» 2012 – ستيفن سبيلبرغ)، طلب من الجميع مناداته بالسيد الرئيس حتى سبيلبرغ نفسه. ولم يسمح لأحد بالتحدّث معه باللكنة البريطانية، اعتبر هذا إلهاءً من شأنه أن يدمّر محاولاته لإعطاء النطق الصحيح ونبرة صوت لينكون. لفيلمه الأخير ولدور مصمم أزياء («خيط وهمي» 2017 ــــ بول توماس آندرسون)، قضى لويس أكثر من عام في تعلّم الخياطة، وتصميم الفساتين. باختصار، دانيال دي لويس مجنون بكل إيجابية وبكل حواسه. لديه موهبة في التخلّي عن ذاته كلياً لصالح الشخصية التي يلعبها. هو صاحب ثلاث جوائز أوسكار (الوحيد في فئة أفضل ممثل في دور رئيسي). يغرق في كلّ شيء يقدمه. كان يضيع في السينما والمسرح عندما كان صغيراً. من الصعب على هذا الرجل أن يميز بين الواقع والخيال: فهو لم يقدم أدواراً فقط، بل تحوّل إلى شخصيات.

لفهم سبب هذه السلوكيات في العمل، فنحن مدينون للويس ولطريقته الصارمة في التمثيل: «تمثيل منهجي». هذا المنهاج المستوحى من المعلّم المسرحي الروسي قسطنطين ستانيسلافسكي. منهاج أشدّ تعقيداً من أن يتم تفسيره بكلمات وجيزة، لكن باختصار ينبغي للممثل أن يستوعب خصوصية الشخصية بطريقة تبدو كأنها شخص آخر. يمرّ الممثل البريطاني بعملية انغماس كامل في الدور الذي يلعبه، بدءاً من الشكل وصولاً إلى العواطف والأفكار، وإلقاء نظرة على العالم من منظور الشخصية، قدر الإمكان. هذا المنهاج التمثيلي غيّر واقع السينما ولا يزال يستخدم لغاية اليوم. لعلّ أسهل تفسير هو ما فعله ستانيسلافسكي الذي ابتكر منهجاً تعليمياً خاصاً. أوضح بأنه إذا أراد الممثل تقديم مشهد تمرّ فيه شخصيته بحالة من الألم الشديد، ينبغي له أن يتذكر لحظةً في حياته الحقيقية عانى فيها من إحساس مماثل كي يصبح الدور الذي يجسده أكثر معقوليةً.
بالطبع، فإن طريقة العمل الصارمة هذه تؤثر سلباً على الممثل. هذه القدرة على التخلّي عن الذات والعمل على فيلم وتحويل نفسه إلى شخص آخر هي لعنة أيضاً. «إن مسؤولية الحياة الإبداعية نعمة ونقمة، لا يمكنك فصل ذلك أبداً. مسؤولية تطعمك وتأكلك، هناك حياة وقتل في آن» قالها دي لويس ذات مرة. لطالما وجد صعوبة في الخروج من دور لعبه: «عندما تنتهي من فيلم، يقول الناس بأن الأمر قد انتهى. لكن ماذا يعني هذا؟ الأمر لم ينتهِ أبداً ما لم تتخلَّ عن عواقب ما قدمته». دي لويس يسمح لنفسه بفترة راحة طويلة بين فيلم وآخر قد تصل إلى خمس سنوات من أجل الخروج من الشخصية. «كان يعاني من الاكتئاب في الكثير من الأحيان» قالها المخرج جيم شريدان، الذي عمل معه ثلاث مرات.
لتجسيد شخصية أبراهام لينكون، طلب من الجميع مناداته بالسيد الرئيس حتى ستيفن سبيلبرغ نفسه


طريقة عمله وهذه التقنية أكسبته الاحترام والإعجاب. فهو بلا شك أحد أهم الممثلين في تاريخ السينما. صرامته وتفانيه في العمل يمنحان أيّ فيلم دفعاً وقوةً كبيرين. مع الاحترام والإعجاب، كان هناك أيضاً الكثير من النقد الذي تعرّض له دي لويس. اتّهمه عديدون بأنه مدّعٍ وغريب الأطوار. وكثيرون يتذكّرون أسوأ انتكاسة له في حياته المهنية في بريطانيا، حين قطع مسرحية «هاملت» في المسرح الوطني في لندن عام 1989، وخرج من المسرح منفجراً بالبكاء وراء الكواليس. شائعات تحدثت عن أنّه كان يركّز على دوره، لكنّ الجواب أنّه بالفعل رأى شبح والده الميت، الذي لم تكن علاقته سهلة معه (ولم يمثل «هاملت» مرة أخرى ولم يقدّم أيّ مسرحية مذاك الحين). اعترف لاحقاً أنّه «ربما كنت أرى شبح والدي كل ليلة» وأن الدخول في الشخصية قد أزال القشور، إذ «تستكشف كلّ شيء من تجربتك الخاصة» مثلما وصفها دي لويس.
يدافع دانيال دي لويس عن هذا المنهاج والأسلوب، ليس فقط لأسباب الشهرة والشرف والاحترام، إنما كما يقول بأنّها الطريقة الوحيدة التي يفهم بها عمله. فـ«خلق شخصية هو دوماً عملية طويلة تنطوي على إنشاء عالم لنفسي ولحياة أخرى يتم التعبير عنها في هذا العالم. ما سيكون غريباً بالنسبة إليّ هو الدخول والخروج من هذا العالم الذي خلقته. ولماذا أغادر، إذا كان هذا هو ما أريد أن أكونه أو المكان الذي أريد أن أكون فيه؟». لويس اعتزل التمثيل، لتبقى السينما الخاصة التي قدّمها والشخصيات الكثيرة التي تقمّصها، ماثلةً في ذاكرة الفن السابع.