بهذه اللوحات، يطمح ناجي إلى أن يُقام معرضٌ نوعيّ في القدس نفسها ويحمل اسمها، خاصة أنه يرسم المدينة كما يراها بقلبه لا بعينيه، كأنه يريد أن يطفئ حزننا العميق وشوقنا إلى رؤية المدينة ولمس حجارتها، فرائحة التراب هناك تعلن أن «الأرض لمن سقطوا عليها مدافعين... ولم يرحلوا». هكذا، تجسّد هذه اللوحات تفاصيل ربما غابت عن كثيرين، بل تعيدنا إلى الزمن الأول الذي نحب، معبّرة عن الأرض وأهلها أصدق تعبير، وقائلة للعالم: هذا نحن، وهذه أرضنا وعاصمتنا، ونحن أدرى بها.
وُلد ناجي في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، عام 1963، لأسرة هُجّرت من موطنها الأصلي في قرية السوافير الشمالي، قضاء أسدود الساحلية. قضى أعوامه العشرين الأولى في المخيم، حيث أنهى تعليمه الأساسي والثانوي قبل أن ينطلق إلى سانت بطرسبورغ، عاصمة السياحة والفنون والثقافة في روسيا، ليصقل موهبته. التحق بأكاديمية الفنون «بارون شتيغلز»، ثمّ عاد إلى غزة عام 1994 حاملاً الدكتوراه في العمارة العربية. بعد العودة كان نشاطه الأول معرضاً ثلاثياً ضمّ لوحاته، ولوحات لزميلته، زوجته في ما بعد، الروسية إيرينا، وكذلك صديقه فتحي غبن. توالت بعد ذلك المشاركات المحلية والعربية والدولية، وآخرها معرض «ذاكرة الأرض» في مدينة هال في بلجيكا، الذي استمرّ من 7 إلى 21 حزيران (يونيو) الماضي.
عن مسقط رأسه غزة، يقول: «هي المدينة التي لا تكف عن العناد، عناد رفض موتها وأعلن فيها الحياة. غزة فلسفة لا يدركها إلا المجانين، عالم متكامل من الحب والموت والسلام والحرب، بيئة خصبة لكل ما تريد». كذلك، يرى أن الحالة التشكيلية الفلسطينية «غنية بنتاجها وبفنانيها، ولم تتوقف يوماً عن الإبداع، سواء في الحرب أو السلم». لذلك، هو كما يقول لا تحدّه مدارس فنية في التعبير عما يختلج داخله، وإنما يرسم بما يتماهى مع ثقافته وتراثه. وكما قال تولستوي: «لن يخدم الفن جمهرة الشعب إلا إذا عاش الفنانون بين صفوفه، وأحبوا أفراده، وقدموا خدماتهم الفنية إليه». نستطيع أن نلمس هذه المقولة في لوحات ناجي عبر مواضيعها التي تراوح بين جلسات السكان في أمكنتهم المعتادة ضمن أنماط حياتهم اليومية، أو لقاءاتهم في مناسبات معيّنة، مثل الحصاد والأعراس والأحزان. في كل هذه المشاهد، لا يُغفل فناننا «الإكسسوارات» الضرورية كالأزياء والزخرفات التراثية، لينتج إبداعاً يجمع سحر الشرق وخصوصيته، والتزام القضية الوطنية، ضمن قالب أنيق.
في «قطاف الزيتون»، لا نستطيع تمييز المرأتين عن الشجرة المنغرسة في الأرض
من بين جميع المواسم، يحتل قطاف الزيتون موقعاً متميزاً في وجدان الفلسطينيين وثقافتهم، فيهدينا ناجي في ذكرى يوم الأرض، الثلاثين من آذار (مارس) الماضي، لوحة «قطاف الزيتون»، حيث نميّز الزي الفلسطيني التراثي للمرأتين اللتين تقطفان حبات الزيتون، لكننا لا نستطيع أن نميّز بسهولة بينهما وبين الشجرة نفسها، لأن تناغم الألوان في اللوحة يخيّل لنا أنهما منغرستان في أرض أجدادهما تماماً كما الزيتون.
اليوم يواجه ماهر ناجي بلوحاته «صفقة القرن». فلكل زمن فنانوه الذين لا تكلّ ريشتهم ولا ينضب عطاؤهم في سبيل قضيتهم الأسمى، لأن «القدس ستبقى درة التاج مهما تآمر الرعاع الطارئون على تاريخ الإنسانية»، يختتم ناجي، «وهكذا تبقى فلسطين حيّة فينا».
رابط اللقاء الإلكتروني: فنانون ومثقفون عرب في مواجهة التطبيع