لم يوقف فيروس «كورونا» الحياة بنمطها المعتاد فحسب، بل جمّد فعاليات مقاومة فلسطينية كثيرة. هذا لم يمنع الفنان التشكيلي الفلسطيني ماهر ناجي من مواصلة مشروعه لإحياء مدينة القدس المحتلة التي يريدها الأميركيون جبراً «عاصمة لإسرائيل». الفنان المقيم في غزة حالياً، ويتهيأ للمشاركة في سمبوزيوم «فنانون بلا حدود» في دورته الثالثة المقرّرة من 7 إلى 14 يوليو (تموز) المقبل في مدينة نورنبيرغ الألمانية، أعاد رسم المدينة بطريقة مختلفة، حاشداً في كل لوحة من لوحاته التي نشرها تباعاً أيقونات تعرّف بالقدس وتاريخها، مضيفاً إليها عناصر من الحياة اليومية للمقدسيين والتراثية للفلسطينيين عموماً.تتناول كل لوحة جانباً من القدس، ويستخدم ناجي تقنية الأكريليك على كانفاس، مستدركاً أن المشاهد ليست حقيقية تماماً، إنما هي دمج لعناصر حقيقية ضمن مشاهد من صنع مخيلته. تظهر معرفة الفنان الوافية بأصول التأليف واختيار الألوان، فعناصر لوحاته تتناغم بشكل مريح للمتلقي، وألوانها تنقسم بين لونين متكاملين وتدرجاتهما: أزرق هادئ، وأصفر مائل إلى البرتقالي. بأسلوبٍ فني لافت، وضرباتٍ مدروسة لريشته، مع الاهتمام بجذب الحواس، يسخّر ناجي مهاراته لجعل المسجد الأقصى وقبة الصخرة النقطة الأبرز، فتخطف نظرك لمعة الشمس على قبة الصخرة، العنصر الأول الجاذب، بلونها الذهبي الذي يشعّ بالطاقة، ثم يجول نظرك في العناصر المكملة للوحة، وتزداد قيمتها الجمالية كلّما تمعّنت فيها. هل من أحد في هذا العالم يعرف القدس أكثر من أصحاب الأرض؟ يجيب ناجي بلوحاته، فقبة الصخرة شامخة فيها كأيقونة ذهبية نفيسة لا تعلوها إلا زرقة السماء، كما يطلق العنان لريشته وهي تصوّر تفاصيل المدينة العريقة، ويجول بنا بين حجارتها العتيقة: هنا كنيسة القيامة، هناك قلعة القدس، على اليمين الكنيسة الروسية، على اليسار حائط البراق. يسكب ابن غزة ألوانه بدقة لتشكل إطاراً جميلاً تتوهج داخله القدس بأبهى حللها. يترجم بالريشة والألوان كلمات تميم البرغوثي: «في القدس تعريف الجمال مثمن الأضلاع أزرق، فوقه، يا دام عزك، قبة ذهبية، تبدو برأيي مثل مرآة محدبة ترى وجه السماء ملخصاً فيها». كذلك، لا ينسى وجه الحياة النابض من بين أجنحة الحمام، «فترى الحمام يطير يعلن دولة في الريح»، ووجوه المتعبدين الساكنة في حضرة المهد السماوي تملأ الساحات، بهيئة أهل الأرض العربية الأصيلة.

«موسم قطاف الزيتون» (أكريليك على كانفاس ـــ 100 × 75 سنتم)


كنيسة القيامة ومسجد قبة الصخرة (أكريليك على كانفاس ــ 60 × 80 سنتم)

بهذه اللوحات، يطمح ناجي إلى أن يُقام معرضٌ نوعيّ في القدس نفسها ويحمل اسمها، خاصة أنه يرسم المدينة كما يراها بقلبه لا بعينيه، كأنه يريد أن يطفئ حزننا العميق وشوقنا إلى رؤية المدينة ولمس حجارتها، فرائحة التراب هناك تعلن أن «الأرض لمن سقطوا عليها مدافعين... ولم يرحلوا». هكذا، تجسّد هذه اللوحات تفاصيل ربما غابت عن كثيرين، بل تعيدنا إلى الزمن الأول الذي نحب، معبّرة عن الأرض وأهلها أصدق تعبير، وقائلة للعالم: هذا نحن، وهذه أرضنا وعاصمتنا، ونحن أدرى بها.
وُلد ناجي في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، عام 1963، لأسرة هُجّرت من موطنها الأصلي في قرية السوافير الشمالي، قضاء أسدود الساحلية. قضى أعوامه العشرين الأولى في المخيم، حيث أنهى تعليمه الأساسي والثانوي قبل أن ينطلق إلى سانت بطرسبورغ، عاصمة السياحة والفنون والثقافة في روسيا، ليصقل موهبته. التحق بأكاديمية الفنون «بارون شتيغلز»، ثمّ عاد إلى غزة عام 1994 حاملاً الدكتوراه في العمارة العربية. بعد العودة كان نشاطه الأول معرضاً ثلاثياً ضمّ لوحاته، ولوحات لزميلته، زوجته في ما بعد، الروسية إيرينا، وكذلك صديقه فتحي غبن. توالت بعد ذلك المشاركات المحلية والعربية والدولية، وآخرها معرض «ذاكرة الأرض» في مدينة هال في بلجيكا، الذي استمرّ من 7 إلى 21 حزيران (يونيو) الماضي.
عن مسقط رأسه غزة، يقول: «هي المدينة التي لا تكف عن العناد، عناد رفض موتها وأعلن فيها الحياة. غزة فلسفة لا يدركها إلا المجانين، عالم متكامل من الحب والموت والسلام والحرب، بيئة خصبة لكل ما تريد». كذلك، يرى أن الحالة التشكيلية الفلسطينية «غنية بنتاجها وبفنانيها، ولم تتوقف يوماً عن الإبداع، سواء في الحرب أو السلم». لذلك، هو كما يقول لا تحدّه مدارس فنية في التعبير عما يختلج داخله، وإنما يرسم بما يتماهى مع ثقافته وتراثه. وكما قال تولستوي: «لن يخدم الفن جمهرة الشعب إلا إذا عاش الفنانون بين صفوفه، وأحبوا أفراده، وقدموا خدماتهم الفنية إليه». نستطيع أن نلمس هذه المقولة في لوحات ناجي عبر مواضيعها التي تراوح بين جلسات السكان في أمكنتهم المعتادة ضمن أنماط حياتهم اليومية، أو لقاءاتهم في مناسبات معيّنة، مثل الحصاد والأعراس والأحزان. في كل هذه المشاهد، لا يُغفل فناننا «الإكسسوارات» الضرورية كالأزياء والزخرفات التراثية، لينتج إبداعاً يجمع سحر الشرق وخصوصيته، والتزام القضية الوطنية، ضمن قالب أنيق.
في «قطاف الزيتون»، لا نستطيع تمييز المرأتين عن الشجرة المنغرسة في الأرض


من بين جميع المواسم، يحتل قطاف الزيتون موقعاً متميزاً في وجدان الفلسطينيين وثقافتهم، فيهدينا ناجي في ذكرى يوم الأرض، الثلاثين من آذار (مارس) الماضي، لوحة «قطاف الزيتون»، حيث نميّز الزي الفلسطيني التراثي للمرأتين اللتين تقطفان حبات الزيتون، لكننا لا نستطيع أن نميّز بسهولة بينهما وبين الشجرة نفسها، لأن تناغم الألوان في اللوحة يخيّل لنا أنهما منغرستان في أرض أجدادهما تماماً كما الزيتون.
اليوم يواجه ماهر ناجي بلوحاته «صفقة القرن». فلكل زمن فنانوه الذين لا تكلّ ريشتهم ولا ينضب عطاؤهم في سبيل قضيتهم الأسمى، لأن «القدس ستبقى درة التاج مهما تآمر الرعاع الطارئون على تاريخ الإنسانية»، يختتم ناجي، «وهكذا تبقى فلسطين حيّة فينا».

رابط اللقاء الإلكتروني: فنانون ومثقفون عرب في مواجهة التطبيع