سمعة المخرج الأميركي شون بيكر تسبقه دائماً. علاوة على موهبته السينمائية، يتمتّع بقدرة على تصوير مخلوقات مهمّشة بشكل واقعي وإنساني. في «أمير برودواي» (2008) و«ستارلت» (2012) و«تانجرين» (2015) قدم أفراداً من الطبقات الدنيا من المجتمع الأميركي، طبقة نادراً ما تتم رؤيتها في وسائل الإعلام.في «مشروع فلوريدا» (2017) الذي طرح أخيراً على نتفليكس، يركز بيكر على العالم السفلي غير المألوف والكئيب للموتيلات المحيطة بـ«ديزني لاند» في أورلاندو في ولاية فلوريدا. هناك، على بعد بضعة كيلومترات من «أسعد مكان على وجه الأرض»، تعيش عائلات ذات موارد محدودة. ولفهم هذا الواقع أكثر، نحتاج لمعرفة تفصيل صغير: في الولايات المتحدة، تحظر الإقامة الدائمة في أحد هذه الأماكن. لذلك، يجب على أولئك الذين يعيشون هناك أن يتنقلوا من موتيل إلى آخر، أو من غرفة إلى أخرى كل فترة.


يدرك الصغار الواقع من خلال غشاء حماية، يجعلهم لا يشاركون في لغة الكبار. هذا الغشاء هو البراءة، وليس بالضرورة أن تكون هذه البراءة نقصاً في الوعي ولكن حماية لألم غير ضروري. وإن كنا نريد أن نلتقط صور ما يراه الأطفال عندما يكونون محاطين بالفقر وسوء التغذية والمخدرات والدعارة، فإنّ النتيجة ستكون مشابهة جداً لـ«مشروع فلوريدا». رسم بيكر كل هذا البؤس بلون الخزامى الزاهي لتخفيف الصدمة علينا، ونقل فرحة ثلاثة أطفال حيويين، يستمتعون بالمرح والصيف، وبالكاد يدركون البؤس الذي يحيط بهم.
تأخذ موني وسكوتي صديقتهما الجديدة جانسي في جولة إرشادية على الموتيل. تشرح الطفلة ذات الست سنوات لصديقتها: «لا أحد يأخذ المصعد لأن رائحته تشبه رائحة البول. تعيش امرأة هنا، تعتقد أنّها متزوجة من يسوع. وهذا الرجل تأتي الشرطة دائماً بحثاً عنه». تتكلم كما لو كانت تخبرنا بأطرف القصص المصورة. الثلاثة يعيشون تحت خط الفقر في حي مليء بالمباني الملونة... هذه الأمكنة تشكل ملعب الأطفال خلال الصيف، بينما يكافح الآباء والأوصياء للعثور على عمل أو محاربة ويلات أزمة لا تزال تضرب حياتهم. يضع شون بيكر في وجهنا عدم المساواة والهوة الطبقية في هذه الولاية، حيث تعيش عشرات العائلات الفقيرة بجوار «ديزني لاند».
واقع وخيال، يأس وبراءة، قسوة الشوارع وجمال ديزني... في فيلم شون بيكر السادس، تظهر كل هذه الأضداد وتختلط للاحتفال مع الناس في هذه المجتمعات مع ضحكهم وحيويتهم، تصرفاتهم الغريبة وكرامتهم، وعندما ينحرفون عن المسار «الصحيح» الذي يضعه القانون والمجتمع. يقدم الفيلم كل هذا بروح وثائقية تقريباً. يزيل بيكر الغشاء ويتبع شخصياته بحماس شديد، ليولَد فيلم صادق، منح فيه الجمال للخراب، متجوّلاً مع شخصياته الهائمة بلا هدف، التي تعيش على أنقاض الحلم الأميركي.
قصة عن الفقر الذي يعيش بجوار «ديزني لاند»


في «مشروع فلوريدا» لدينا حياة، رواية لشخصيات مليئة بالنوايا الحسنة. البراءة هي آخر ما يملكه هؤلاء الأطفال. هم جامحون حالمون مضطربون ووقحون إلى حد ما. يلعبون في مكان خرساني بين الطرق السريعة... كابوس حضري حقيقي، حيث يطلق العنان للأحداث وتغمرنا هذه البيئة القمعية.
بمزيج من المآسي والكوميديا، يقدم بيكر فكرته، وشجبه الواضح لعدم المساواة على حواف أيقونة مثل ديزني. الضحك المدوي للصغار يخفي صرخة الكبار. الحياة تحدث أمام أعيننا بكل قوتها وجمالها، وهزائمها وانتصاراتها. سينما بيكر واضحة، بسيطة، ذكية، ووقحة في بعض الأحيان، مزينة ببراعة وملونة، وهذا ضروري لتجنّب الوقوع في الدراما الزائدة.
ديزني هو المكان الذي يحلم به الأطفال، لكن زيارته ليست في متناول أولئك الذين لا يعرفون إن كانوا سيأكلون اليوم. فيلم بيكر قدّم واقع بشر وأطفال حاضرهم صعب، لكنهم مضيئون، لم يفقدوا نقاءهم.. نتعرف إليهم، نشاركهم حياتهم، ونتركهم آملين أن يكون لديهم مستقبل... محتمل!

* The Florida Project على نتفليكس