معظمنا لا يفكر أو يستغرق في التفكير في العلاقة الرومانسية لوالدينا. هذه العلاقة التي، إن تجرأنا وفكرنا فيها، نراها محرّمة. نبتعد عن الخصوصية والحميمية التي جمعت المرأة والرجل اللذين أنجبانا وربيانا. لماذا؟ ليس هناك جواب واضح وصريح. إنما لا يسعنا التفكير كثيراً فيها، ربما لأننا لا نراهما كعاشقين، بل كأهل عليهما مسؤوليات أكبر من أن يكونا عاشقين لهما حياتهما الحميمية الخاصة. المخرج اللبناني أحمد غصين في فيلمه «أبي ما زال شيوعياً» (2011)، لم يفكر فقط في هذه العلاقة، بل قدمها لنا. أدخلنا في هذه العلاقة الحميمة التي جمعت والدته بوالده. قص لنا حكاية خاصة جداً لعاشقين، تزوجا وأنجبا وعاشا الكثير من الأيام بعيداً عن بعضهما.
من «أبي ما زال شيوعياً»

تزوج رشيد غصين بمريم حمادة، وأنجبا جلال، ثم سافر إلى السعودية هرباً من الحرب والمشاكل الاقتصادية التي تعصف بالبلاد. خلال سنوات الغربة الطويلة، تواصلا من خلال أشرطة كاسيت كانا يرسلانها لبعضهما. منذ سنة ١٩٧٨ ولمدة عشر سنوات، كانت هذه الأشرطة وسيلة التواصل بين العشيقين المتباعدين. وخلال هذه المدة، زار رشيد لبنان لفترات قصيرة وأنجبا أحمد ونبيلة وكرم. فيلم «أبي ما زال شيوعياً» هو دعوة أحمد لنا للدخول في تفاصيل هذه العلاقة، وخصوصيتها من خلال مشاهد لقريته والبيت الذي لم ينتهِ إنشاؤه بعد، ومن خلال مريم وصوتها الذي يصدح عبر الراديو. نسمع ما كانت مريم تقوله لرشيد. نصغي إلى تفاصيل تطور العلاقة من العشق والشوق إلى التفاصيل الدنيوية ومنها إلى المتطلبات العائلية. من خلال ما نسمعه ونراه، نرسم تفاصيل هذه «الحدوتة» في مخيلتنا، المبنية على عشق وغرام، لكننا نكتشف عبرها الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية في البلاد.
ما يجعل شريطاً مثل «أبي مازال شيوعياً»، ببساطته المرئية والسمعية، فيلماً مثيراً للاهتمام تماماً كقصة الحب التي قدمها؛ هي مهارة المخرج في لغته السينمائية. يعرف غصين تماماً العلاقة الحيوية بين الصورة والقصة التي يقدمها. ليس هناك فصل بين النمط المرئي والعناصر السردية. خلال الفيلم مثلاً، أعاد أحمد خلق أبيه ووضعه في الصور في اللحظات التي لم يكن موجوداً فيها. نرى والده يشارك في الصور التي التُقطت في غيابه. زاد حميميةً على الحميمية. قدم العنصر المرئي الذي يتناسب تماماً مع ما نسمع والدته تقوله. عندما كانت تتحدث عن الهجرة من الجنوب إلى بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي، نرى الطريق وأضواء السيارات النازحة. عندما نسمعها تتكلم عن البيت والمصروف، نراقب ما ينقص في البيت، نرى الحجرة حيث تضع سريرها ونلاحظ جدران غرفتها التي لم يكتمل طلاؤها بعد.
ما بدأه في «أبي ما زال شيوعياً» أكمله في باكورته الطويلة جدار الصوت»


جاذبية فيلم غصين تأتي من براعته في رواية القصة، هذه القدرة على حلّ التوتر واستعادة التوازن بطريقة منظمة. رغم أنها قصة قديمة، إلا أنها نابضة بالحياة، مليئة بالانسجام والاتصال والمعنى، ومبنية على التفاعل بين الصورة والصوت والإيقاع. تمكّن غصين من تبيان المشاعر المتشابكة لوالدته في قصة تعتمد على الخصوصية بشكل كبير. لم يقيد هذه القصة بل أعطاها حريتها، كأنها مسار متفرع لا نهاية له في فضاء يربطنا جميعاً.
جريء غصين. قلّة من المخرجين تقدّم قصصاً خاصة عنها في أفلامها الأولى. غصين كان شخصياً جداً. من خلال سينماه الخاصة، عرف كيف يتصالح مع الماضي ومع والده ومع القصص التي خلقها في مخيلته لتبرير غيابه. ما بدأه في «أبي ما زال شيوعياً» أكمله في باكورته الطويلة «جدار الصوت» (٢٠١٩). على الرغم من أنّ أفلامه محددة بتواريخ وأوقات، إلا أنها خارج الزمان والمكان. يكتب غصين تاريخه الخاص من خلال أفلامه، تماماً كما قال أحد شخوص فيلم «في مديح الحب» (٢٠٠١) لجان لوك غودار: «من الغريب كيف تأخذ الأمور معنى عندما تنتهي القصة»، فترد عليه عشيقته «لأن هذا هو الوقت الذي يبدأ فيه التاريخ».

«جدار الصوت» عن الجنوب والعائلة و«الشباب» والضياع والخوف: أحمد غصين... ما تفعله الحرب بنا!

https://www.aflamuna.online/#my-father-is-still-a-communist